فصل: النوع الثاني عهود الخلفاء للملوك:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: صبح الأعشى في كتابة الإنشا (نسخة منقحة)



.النوع الثاني عهود الخلفاء للملوك:

ويتعلق النظر به من سبعة أوجه:
الوجه الأول في أصل مشروعيتها:
والأصل فيها ما رواه ابن إسحاق وغيره، أنه لما رجع وفد بني الحرث بن كعب إلى قومهم باليمن بعد وفود هم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته بأربعة أشهر، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد أن ولى وفدهم عمرو بن حزم، يفقههم في الدين، ويعلمهم السنة ومعالم الإسلام، ويأخذ منهم صدقاتهم. وكتب له كتاباً عهد فيه عهده، وأمره فيه أمره، على ما سيأتي ذكره في أول نسخ العهود الواردة في هذا الكتاب إن شاء الله تعالى. فقد فوض النبي صلى الله عليه وسلم أمر اليمن في حياته إلى عمرو بن حزم رضي الله عنه. وذلك أصرح دليل وأقوم شاهدٍ لما نحن فيه.
الوجه الثاني في بيان معنى الملك والسلطنة اللتين يقع العهد بهما:
قد تقدم في الكلام على الألقاب نقلاً عن الفروق في اللغة للعسكري أن الملك أخص من السلطنة، لأن الملك لا يطلق إلا على الولاية العامة، والسلطنة تطلق على أنواع الولايات، حتى أن الفقهاء يعبرون عن القاضي ووالي البلد في أبواب الفقه بالسلطان.
ثم تفويض الخليفة الأمور في البلاد والأقاليم إلى من يدبرها ويقوم بأعبائها على ثلاثة أقسام:
القسم الأول- وهو أعلاها وزارة التفويض، وهو أن يستوزر الخليفة من يفوض إليه تدبير الأمور برأيه وإمضاءها على اجتهاده، وينظر فيها على العموم. وعلى ذلك كانت السلطنة في زمن الخلفاء الفاطميين بمصر على ما سيأتي ذكره. قال الماوردي في الأحكام السلطانية: ولا يمتنع جواز مثل ذلك؛ لأن كل ما وكل إلى الإمام من تدبير الأمة لا يقدر على مباشرة جميعه إلا بالاستنابة، ونيابة الوزير المشارك له في التدبير أصح في تنفيذ الأمور، من تفرده بها ليستظهر به على نفسه ولنفسه، فيكون أبعد من الزلل، وأمنع من الخلل. قال: وتعتبر في تقليد هذه الوزارة شروط الإمامة إلا النسب وحده. وقد تقدم بيان شروط الإمامة في الكلام على البيعات. ثم قال: وكل ما صح من الإمام صح من وزر التفويض إلا في ثلاثة أشياءً: أحدها- ولاية العهد. فإن للإمام أن يعهد إلى من يرى وليس ذلك للوزير.
الثاني- أن للإمام أن يستعفي الأمة من الإمامة وليس ذلك للوزير.
الثالث- أن للإمام أن يعزل من قلده الوزير وليس للوزير أن يعزل من قلده الإمام.
وتفارق هذه الوزارة الخلافة في عموم النظر فيما عدا ذلك من وجهين: أحدهما- مختصٌ بالإمام وهو أن يتصفح أفعال الوزير وتدبير الأمور ليقر منها ما وافق الصواب، ويستدرك ما خالفه؛ لأن تدبير الأمة إليه موكول، وعلى اجتهاده محمول.
والثاني- مختصٌ بالوزير، وهو مطالعة الإمام بما أمضاه من تدبيرٍ، وأنفذه من ولايةٍ وتقليدٍ، لئلا يصير بالاستبداد كالإمام.
أما وزارة التنفيذ فسيأتي الكلام عليها في تقليد الوزارة إن شاء الله تعالى.
القسم الثاني- إمارة الاستكفاء.
وهي التي تنعقد عن اختيارٍ من الخليفة، وتشتمل على عملٍ محدودٍ ونظرٍ معهود، بأن يفوض الخليفة إليه إمارة بلدٍ أو إقليمٍ ولايةً على جميع أهله، ونظراً في المعهود من سائر أعماله، فيصير عام النظر فيما كان محدوداً من عملٍ، ومعهوداً من نظر. قال الماوردي: فينظر فيما إليه في تدبير الجيش، وترتيبه في النواحي، وتقدير أرزاقهم إن لم يكن الإمام قد قدرها، وإدرارها عليهم إن كان الإمام قدرها، وكذلك النظر في الأحكام، وتقليد القضاة والحكام، وجباية الخراج، وقبض الصدقات والعمل فيهما، وتفريق ما يستحق منهما، وحماية الحريم، والذب عن البيضة، ومراعاة الدين من تغييرٍ أو تبديل، وإقامة الحدود في حقوق الله تعالى وحقوق الآدميين، والإقامة في الجمع والجماعات بالقيام بها، والاستخلاف عليها، وتسيير الحجيج من عمله ومن يمر عليه من غير عمله، وجهاد من يليه من العدو، وقسم الغنائم في المقاتلة، وأخذ خمسها لأهل الخمس. وله أن يتخذ وزير تنفيذ لا وزير تفويض.
وعلى هذا كانت الأمراء والعمال في الأقاليم والأمصار من ابتداء الإسلام إلى أن تغلب المتغلبون على الأمر واستضعف جانب الخلفاء.
قال الماوردي: ويعتبر في هذه الإمارة ما يعتبر في وزارة التفويض من الشروط، إذ ليس بين عموم الولاية وخصوصها فرقٌ في الشروط المعتبرة فيها.
القسم الثالث- إمارة الاستيلاء.
وهي أن يقلده الخليفة الإمارة على بلاد ويفوض إليه تدبيرها، فيستولي عليها بالقوة، فيكون الأمير باستيلائه مستبداً بالسياسة والتدبير، والخليفة بإذنه ينفذ أحكام الدين لتخرج عن الفساد إلى الصحة، ومن الحظر إلى الإباحة، نافذ التصرف في حقوق الملة وأحكام الأمة. وهذا ما صار إليه الأمر بعد التغلب على الخلفاء، والاستبداد بالأمر بالغلبة والقوة.
قال الماوردي: وهذا وإن خرج عن عرف التقليد المطلق في شروطه وأحكامه، ففيه من حفظ قوانين الشرع وحراسة الأحكام الدينية ما لا يجوز أن يترك مختلاً مدخولاً، ولا فاسداً معلولاً، فجاز فيه مع الاستيلاء والاضطرار، ما امتنع في تقليد الاستكفاء والاختيار؛ لوقوع الفرق بين شروط المكنة والعجز. قال: والذي يتحفظ بتقليد المستولي من قوانين الشريعة سبعة أشياء، يشترك في التزامها الخليفة المولي والأمير المستولي، ووجوبها في جهة المستولي أغلظ.
أحدها- حفظ منصب الإمامة في خلافة النبوة، وتدبير أمور الأمة ليكون ما أوجبه الشرع من إقامتها محفوظاً، وما تفرع عنها من الحقوق محروساً.
والثاني- ظهور الطاعة الدينية التي يزول معها حكم العناد في الدين، وينتفي بها مأثم المباينة له.
والثالث- اجتماع الكلمة على الألفة والتناصر ليكون المسلمون يداً على من سواهم.
والرابع- أن تكون عقود الولايات الدينية جائزة، والأحكام والأقضية فيها نافذة، لا تبطل بفساد عقودها، ولا تسقط بخلل عهودها.
الخامس- أن يكون استيفاء الأموال الشرعية بحقٍ تبرأ به ذمة مؤديها، ويستبيحه آخذها ومعطيها.
السادس- أن تكون الحدود مستوفاةً بحقٍ، وقائمةً على مستحق، فإن جنب المؤمن حمًى إلا من حقوق الله تعالى وحدوده.
السابع- أن يكون للأمة في حفظ الدين وازعٌ عن محارم الله تعالى، يأمر بحقه إن أطيع، ويدعو إلى طاعته إن عصي. ثم قال: فإن كملت فيه شروط الاختيار المتقدمة، كان تقليده حتماً استدعاء لطاعته، ودفعاً لمشاقته ومخالفته، وصار بالإذن له نافذاً لتصرف في حقوق الملة وأحكام الأمة، وجرى على من استوزره أو استنابه أحكام من استوزره الخليفة أو استنابه. وإن لم تكمل فيه شروط الاختيار، جاز له إظهار تقليده استدعاءً لطاعته وحسماً لمخالفته ومعاندته، وكان نفوذ تصرفاته في الحقوق والأحكام موقوفاً على أن يستنيب الخليفة له من تكاملت فيه الشروط. قال: وجاز مثل هذا وإن شذ عن الأصول؛ لأن الضرورة تسقط ما أعوز من شروط المكنة.
قلت: ومملكة الديار المصرية من حين الفتح الإسلامي وهلم جرا إلى زماننا دائرةٌ بين هذه الأقسام الثلاثة، لا تكاد تخرج عنها؛ فكانت في بداية الأمر إمارة استكفاء يولي عليها الخليفة في كل زمن من يقوم بأعبائها، ويتصرف في أمورها، قاصر الولاية عليها، واقفٌ عند حد ما يرد عليه من الخليفة من الأوامر والنواهي، إلا ما كان في أيام بني طولون من الخروج عن طاعة الخلفاء في بعض الأحيان. فلما استولى عليها الفاطميون واستوزروا أرباب السيوف في أواخر دولتهم، وعظمت كلمتهم عندهم، صارت سلطنتها وزارة تفويض. وكان الخليفة يحتجب والوزير هو المتصرف في المملكة كالملوك الآن أو قريبٍ منهم. وكانوا يلقبون بألقاب الملوك الآن، كالملك الأفضل رضوان وزير الحافظ، وهو أول من لقب بالملك منهم فيما ذكره المؤيد صاحب حماة في تاريخه. والملك الصالح طلائع بن رزيك وزير الفائز ثم العاضد. والملك المنصور أسد الدين شيركوه بن شادي وزير العاضد، وابن أخيه صلاح الدين يوسف بن أيوب وزير العاضد أيضاً، قبل أن يستقل بالملك ويخطب بالديار المصرية لبني العباس ببغداد. ولا نكر في تسمية الوزير ملكاً، فقد قيل في قوله تعالى في قصة يوسف عليه السلام: {وقالَ المَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي} إن المراد بالملك الوزير لا الملك نفسه. ولما انتزعت من الفاطميين وصارت إلى بني أيوب، وكانوا يلونها عن خلفاء بني العباس، صارت إمارة استيلاء لاستيلائهم عليها بالقوة، واستبدادهم بالأمر والتدبير مع أصل إذن الخليفة وتقليده. وكان الرشيد قد لقب جعفر بن يحيى البرمكي في زمن وزارته له بالسلطان، ولم يأخذ الناس في التلقيب به. فلما تغلب الملوك بالشرق على الخلفاء واستبدوا عليهم، صار لقب السلطان سمةً لهم، مع ما يختصهم به الخليفة من ألقاب التشريف، كشرف الدولة، وعضد الدولة، وركن الدولة، ومعز الدولة، وعز الدولة، ونحو ذلك. وشاركهم في لقب السلطنة غيرهم من ملوك النواحي، فتلقب بذلك صلاح الدين يوسف بن أيوب، وتلقب بالملك الناصر عند استبداده بالملك على العاضد الفاطمي بعد وزارته له، ونقل ما كان من وزارة التفويض والعهد بها إلى السلطنة، وصارت الوزارة عن السلطان معدوقةً بقدرٍ مخصوصٍ من التصرف. وبقي الأمر على ما هو عليه من الاستيلاء والاستبداد بالملك، مع أصل إذن الخليفة وكتابة العهد بالملك، وهي على ذلك إلى زماننا، إلا ما كان في زمن تعطيل جيد الخلافة من الخلفاء، من حين قتل التتار المستعصم آخر خلفاء بني العباس ببغداد إلى حين إقامة الخليفة بمصر في الدولة الظاهرية بيبرس. على أن في السلطنة الآن شبهاً من وزارة التفويض، فإن الخليفة يفوض إليه في تقليده تدبير جميع الممالك الإسلامية بالتفويض العام لا يستثني منها شيئاً. وغير هذه المملكة وإن كان خارجاً عن يده فهو داخل في عموم ولايته، حتى لو غلب على شيء منها أو فتحه لم يحتج فيه إلى توليةٍ جديدةٍ من الخليفة. ولا مانع لذلك، فسيأتي في الكلام على المناشير أنه يجوز للإمام أن يقطع أرض الكفر قبل أن تفتح، وإذا جاز ذلك في الإقطاع ففي هذا أولى. وحينئذ فتكون سلطنة الديار المصرية الآن مركبة من وزارة التفويض وإمارة الاستيلاء.
الوجه الثالث فيما يجب على الكاتب مراعاته فيه:
واعلم أنه يجب على الكاتب مراعاة أمور: منها: براعة الاستهلال بما يتهيأ له من اسم السلطان أو لقبه الخاص، مثل فلان الدين، أو لقبه بالسلطنة، مثل الناصر، والظاهر، ونحوهما، أو غير ذلك مما يدل على ما بعده قبل الإتيان به كما تقدم في البيعات وعهود الخلفاء.
ومنها: التنبيه على شرف السلطنة وعلو رتبتها، ووجوب القيام بأمر الرعية، وتحمل ذلك عن الخليفة.
ومنها: الإشارة إلى اجتهاد الخليفة وإعمال فكره فيمن يقوم بأمر الأمة، وأنه لم يجد بذلك أحق من المعهود إليه ولا أولى به منه، فيصفه بالصفات الجميلة، ويثني عليه بما يليق بمقام الملك.
ومنها: الإشارة إلى جريان لفظٍ تنعقد به الولاية من عهد أو تقليدٍ أو تفويض، وقبول ذلكن ووقوع الإشهاد على الخليفة بالعهد.
ومنها: إيراد ما يليق بالمقام من الوصية، بحسب ما يقتضيه الحال، من علو رتبة الخلافة وانخفاضها، مبيناً لما يلزمه القيام به، من حفظ الدين على أصوله المستقرة، وما أجمع عليه سلف الأمة، وتنفيذ الأحكام، وإنصاف المظلوم من الظالم، وحماية البيضة، والذب عن الحرم، وإقامة الحدود، وتحصين الثغور، وجهاد أعداء الله وغزوهم، وجباية الفيء والصدقات على ما أوجبه الشرع من غير حيف ولا عسف، وتقدير العطاء، وصرف ما يستحق في بيت المال من غير سرف ولا تقتير، في وقت الحاجة إليه، واستكفاء الأمناء، وتقليد النصحاء للأعمال والأموال، ومباشرة الأمور بنفسه وتصفح الأحوال، إلى غير ذلك من الأمور المتعلقة بالإمامة، من إقامة موسم الحج، وتأمين الحرم الشريف وإكرام ضرائح الأنبياء وبيت المقدس، وتحرير مقادير المعاملات، وغير ذلك مما يقتضيه أمر المملكة.
الوجه الرابع فيما يكتب في الطرة:
وهو نمطان:
النمط الأول: ما كان يكتب في وزارة التفويض في دولة الفاطميين:
وكان الخليفة هو الذي يكتب بيده. وهذا أمرٌ وإن كان قد ترك فالمعرفة به خيرٌ من الجهل، خصوصاً وقد أثبت المقر الشهابي بن فضل الله عهدي أسد الدين شيركوه وابن أخيه السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالوزارة عن العاضد، في جملة عهود الملوك على ما سيأتي ذكره. وسنوردهما في جملة عهود الملوك عن الخلفاء فيما بعد إن شاء الله تعالى.
فمن ذلك ما كتب به العاضد في طرة عهد أسد الدين شيركوه المتقدم ذكره، وهو: هذا عهدٌ لا عهد لوزير بمثله، وتقليد أمانةٍ رآك الله تعالى وأمير المؤمنين أهلاً لحمله، والحجة عليك عند الله بما أوضحه لك من مراشد سبله، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة، واسحب ذيل الفخار بأن اعتزت خدمتك إلى بنوة النبوة، واتخذ أمير المؤمنين للفوز سبيلاً {ولا تَنْقُضُوا الأيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً}.
ومن ذلك ما كتب به العاضد أيضاً في طرة العهد المكتتب عنه بالوزارة للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب قبل استقلاله بالسلطنة، وهو: هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عند الله تعالى عليك، فأوف بعهدك ويمينك، وخذ كتاب أمير المؤمنين بيمينك، ولمن مضى بجدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن أسوة، ولمن بقي بقربنا أعظم سلوة {تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً في الأرْضِ وَلاَ فَسَاداً والعاقِبَةُ للمتَّقِين}.
النمط الثاني: ما يكتب في طرة عهود الملوك الآن:
وهو قريب مما كان يكتب أولاً مما تقدم ذكره، إلا أنه يبدل فيه لفظ الوزارة بالملك والسلطنة، ويكون الذي يكتبه هو الذي يكتب العهد دون الخليفة. ثم هو بحسب ما يؤثره الكاتب مما يدل على صدر العهد على ما يقتضيه الحال.
وهذه نسخة طرة عهدٍ، كتب بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، في نسخة عهدٍ أنشأه للسلطان الملك الناصر محمد بن قلاوون، في سنة سبع عشرة وسبعمائة، وهو: هذا عهدٌ شريفٌ تجددت مسرات الإسلام بتجديده، وتأكدت أسباب الإيمان بتأكيده، ووجد النصر العزيز والفتح المبين بوجوده، ووفد اليمن والإقبال على الخليقة بوفوده، وورد الأنام مورد الأمان بوروده، من عبد الله ووليه الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أمير المؤمنين، ابن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، عهد به إلى السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمد، خلد الله سلطانه، ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قدس الله روحه.
بسم الله الرحمن الرحيم
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وأله وصحبه.
الوجه الخامس فيما يكتب في ألقاب الملوك عن الخلفاء:
وهو نمطان:
النمط الأول: ما كان يكتب في قديم الزمان:
وهو أن يقصر على ما يلقب به الملك أو يكنى به من ديوان الخلافة، ثم يقال: مولى أمير المؤمنين ولا يزاد على ذلك.
كما كتب أبو إسحاق الصابي في عهد فخر الدولة بن بويه عن الطائع لله: هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الطائع لله أمير المؤمنين، إلى فخر الدولة أبي علي موسى أمير المؤمنين.
وإلى هذا أشار في التعريف بقوله: على أن لهذا ضابطاً كان في قديم الزمان وهو أن لا يكتب للرجل إلا ما كان يلقب به من ديوان الخلافة بالنص من غير زيادة ولا نقص.
النمط الثاني: ما يكتب به لملوك الزمان:
وقد حكى في التعريف في ذلك مذهبين: الأول أن يكتب فيها: السلطان، السيد، الأجل، الملك الفلاني، مع بقية ما يناسب من الألقاب المفردة والمركبة: كما كتب القاضي الفاضل في عهد أسد الدين شيركوه الآتي ذكره عن العاضد الفاطمي: من عبد الله ووليه أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد، الأجل، الملك، المنصور، سلطان الجيوش، ولي الأمة، فخر الدولة، أسد الدين كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المسلمين أبي الحارث شيركوه العاضدي.
وعلى هذه الطريقة بزيادة ألقاب كتب ابن القيسراني في العهد للملك الناصر بن محمد قلاوون: قدس الله روحه ونحو ذلك. قال في التعريف: وأنا إلى ذلك أجنح، وعليه أعمل.
الثاني- أن يكتب: المقام الشريف، أو الكريم، أو العالي مجرداً عنهما. ويقتصر على المفردة دون المركبة.
كما كتب به الصاحب فخر الدين بن لقمان، في عهد الظاهر بيبرس بعد ذكر أوصافه ومناقبه: ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصة بالمقام العالي المولوي، السلطاني الملكي، الظاهري الركني، شرفه الله تعالى وأعلاه.
قلت: وربما أبدل المتقدمون المقام في هذه الحالة بالمقر وأتى بالألقاب من نحو ما تقدم.
وكما كتب به القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر في عهد المنصور قلاوون بعد استيفاء مناقبه وأوصافه، وذكر إعمال الفكر والروية في اختياره: وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين شرفه وأظفر ه وأقدره، وأيده وأبده؛ كل ما فوضه الله لمولانا أمير المؤمنين ونحو ذلك.
وبقي مذهب ثالث وهو أن يأتي بنظير ألقاب المذهب الأول، مقصراً على الألقاب المفردة دون المركبة. وعلى ذلك جرى الوزير ضياء الدين بن الأثير في العهد الذي كتب به معارضةً لعهد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب الآتي ذكره فقال بعد ذكر مناقبه: وتلك مناقبك أيها الملك، الناصر، الأجل، السيد، الكبير، العالم، العادل، صلاح الدين أبو المظفر يوسف بن أيوب. ولم يعترض لحكايته في التعريف. على ابن الأثير إمام هذا الفن، وحائز قصب السبق فيه، ومقالته مما يحتج بها ويعول عليها.
فإن قيل لعله في التعريف أراد مذاهبه كتاب زمانه، فالجواب أن حكاية المذهب الثاني عن المتأخرين يؤذن بأن المراد متقدمو الكتاب ومتأخروهم.
الوجه السادس فيما يكتب في متن العهود:
وفيه خمسة مذاهب:
المذهب الأول وعليه عامة الكتاب من المتقدمين وأكثر المتأخرين: أن يفتتح العهد بلفظ هذا:
مثل: هذا ما عهد به فلان لفلان أو هذا ما أمر به فلان فلاناً أو عهدٌ من فلان لفلان أو هذا كتاب اكتتبه فلان لفلان وما أشبه ذلك.
وللكتاب فيه طريقتان:
الطريقة الأولى: طريقة المتقدمين:
وهي أن لا يأتي بتحميدٍ في أثناء العهد في خطبة ولا في غيرها، ولا يتعرض إلى ذكر أوصاف المعهود إليه والثناء إليه أصلاً أو يتعرض إلى ذلك باختصار ثم يقول: فقلده كذا وكذا ويذكر ما فوض إليه، ثم يقول: وأمره بكذا حتى يأتي على آخر الوصايا، ثم يقول في آخره: هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته لك وعليك، ويأتي بما يناسب ذلك، ويختم بقوله: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته أو والسلام عليك أو بغير ذلك من الألفاظ المناسبة على اختلاف طرقهم في ذلك، وتبيان مقاصدهم. وعلى هذا النهج وما قاربه كانت عهود السلف فمن بعدهم، تأسياً بالنبي صلى الله عليه وسلم فيما كتب به لعمرو بن حزم حين وجهه إلى اليمين، كما تقدمت الإشارة إليه في الاستشهاد لأصل عهود الملوك عن الخلفاء.
وهذه نسخته بعد البسملة فيما ذكره ابن هشام وغيره: هذا بيان من الله ورسوله: {يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود}.
عهد من محمد النبي رسول الله لعمرو بن حزم حين بعثه إلى اليمن أمره بتقوى الله في أمره كله، فإن الله مع اللذين اتقوا والذين هم محسنون. وأمره أن يأخذ بالحق كما أمره الله، وأن يبشر الناس بالخير ويأمرهم به ويعلم الناس القرءان ويفقههم فيه، وينهى الناس فلا يمس القرءان إنسان إلا وهو طاهر، ويخبر الناس بالذي لهم والذي عليهم، ويلين للناس في الحق ويشتد عليهم في الظلم، فإن الله كره الظلم ونهى عنه فقال: {ألا لعنة الله على الظالمين} ويبشر الناس بالجنة وبعملها، وينذر الناس النار وعملها، ويستألف الناس حتى يفقهوا في الدين، ويعلم الناس معالم الحج وسنته وفريضته وما أمر الله به ن والحج الأكبر الحج الأكبر، والحج الأصغر هو العمرة، وينهى الناس أن يصلي أحد في ثوبٍ واحد صغير إلا أن يكون ثوباً يثني طرفيه على عاتقيه، وينهى الناس أن يحتبى أحد في ثوب واحد يفضي بفرجه إلى السماء، وينهى أن لا يعقص أحد شعر رأسه في قفاه، وينهى إذا كان بين الناس هيج عن الدعاء إلى القبائل والعشائر، وليكن دعواهم إلى الله عز وجل وحده لا شريك له فمن لم يدع إلى الله ودعا إلى القبائل والعشائر فليقطعوا بالسيف حتى تكون دعواهم إلى الله وحده لا شريك له ويأمر الناس بإسباغ الوضوء: وجوههم، وأيديهم إلى المرافق، وأرجلهم إلى الكعبين، ويمسحون برؤوسهم كما أمرهم الله، وأمر بالصلاة لوقتها، وإتمام الركوع والسجود والخشوع ويغلس بالصبح، ويهجر بالظهر حين تميل الشمس، وصلاة العصر والشمس في الأرض مدبرة، والمغرب حين يقبل الليل. أمر بالسعي إلى الجمعة إذا نودي لها، والغسل عند الرواح غليها. وأمره أن يأخذ من المغانم خمس الله، وما كتب على المؤمنين في الصدقة من العقار عشر ما سقت العين وسقت السماء، وعلى ما سقى الغرب نصف العشر. وفي كل عشرٍ من الإبل شاتان، وفي كل عشرين أربع شياهٍ وفي كل أربعين من البقر بقرةً، وفي كل ثلاثين من البقر تبيعٌ جذع أو جذعةٌ، وفي كل أربعين من الغنم سائمة وحدها شاة، فإنها فريضة الله تعالى التي افترض على المؤمنين في الصدقة، فمن زاد خيراً فهو خير له. وأنه من أسلم يهوديٍ أو نصرانيٍ إسلاماً خالصاً من نفسه ودان بدين الإسلام، فإنه من المؤمنين: له مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم، ومن كان على نصرانيته أو يهود يته، فإنه لا يرد عنها وعلى كل حالمٍ: ذكرٍ أو أنثى، حر أو عبد دينارٌ وافٍ، أو عوضه ثياباً، فمن أدى ذلك فإن له ذمة الله وذمة رسوله، ومن منع ذلك فإنه عدوٌ لله ولرسوله وللمؤمنين جميعاً.
صلوات الله على محمد والسلام عليه ورحمة الله وبركاته.
وعلى نحو ذلك كتب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرم الله وجهه عهد مالك بن الأشتر النخعي حين ولاه مصر ن وهو من العهود البليغة جمع فيه بين معالم التقوى وسياسة الملك.
وهذه نسخته فيما ذكره ابن حمدون في تذكرته: هذا ما أمر به عبد الله عليٌ أمير المؤمنين مالك بن الحارث الأشتر، في عهده إليه، حين ولاه مصر: جباية خراجها، وجهاد عدوها واستصلاح أهلها، وعمارة بلادها، أمره بتقوى الله وإيثار طاعته، واتباع ما أمر به في كتابه من فرائضه وسننه التي لا يسعد أحد إلا بإتباعها ن ولا يشقى إلا مع جحودها وإضاعتها، وأن ينصر الله تعالى بيده وقلبه ولسانه ن فإنه جل اسمه قد تكفل بنصر من نصره، وإعزاز من اعزه. وأمره أن يكسر من نفسه عند الشهوات، ويزعها عند الجمحات، فإن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم الله.
ثم اعلم يا ملك أنى قد وجهتك إلى بلادٍ قد جرت عليها دول قبلك: من عدل وجور، وأن الناس ينظرون من أمورك في مثل ما كنت تنظر فيه من أمر الولاة قبلك، ويقولون فيك كما كنت تقول فيهم. وإنما يستدل على الصالحين بما يجري الله لهم على ألسن عباده، فليكن أحب الذخائر إليك ذخيرةً العمل الصالح. فاملك هواك، وشح بنفسك عما يحل لك، فإن الشح بالنفس الانتصاف منها فيما أحبت وكرهت. وأشعر قلبك بالرحمة للرعية، والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً، تغتنم أكلهم، فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، وإما نظير لك في الخلق: يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطإ: فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه: فإنك فوقهم ووالي الأمر عليك فوقك، والله فوق من ولاك. وقد استكفاك أمرهم، وابتلاك بهم، ولا تنصبن نفسك لحرب الله، فإنه لا يدي لك بنقمته، ولا غنى بك عن عفوه ورحمته، ولا تندمن على عفوٍ، ولا تبجحن بعقوبةٍ، ولا تسرعن إلى باردةٍ، وجدت عنها مندوحة، ولا تقولن إني امرؤ آمر فأطاع: فإن ذلك إدغالٌ في القلب، ومهلكةٌ في الدين، وتقربٌ من الغير، وإذا أحدث لك ما أنت فيه من سلطانك أبهةً أو مخيلةً، فانظر إلى عظم ملك الله تعالى فوقك، وقدرته منك على ما تقدر عليه من نفسك، فإن ذلك يطامن إليك من طماحك ويكف عنك من غربك، ويفيء إليك بما عزب عنك من عقلك. وإياك ومساماة الله تعالى في عظمته، والتشبه به في جبروته، فإن الله يذل كل جبار، ويهين كل مختال.
أنصف الله وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممن لك فيه هوى من رعيتك: فإنك إلا تفعل تظلم، ومن ظلم عباد الله كان الله خصمه دون عباده، ومن خاصمه الله ن أدحض حجته وكان لله حرباً حتى ينزع ويتوب. وليس شيءٌ أدعى إلى تغيير نعمة الله وتعجيل نقمته من إقامةٍ على ظلمٍ فأن الله سميعٌ يسمع دعوة المظلومين وهو للظالمين بالمرصاد.
وليكن أحب الأمور إليك أوسطها في الحق، وأعمها في العدل، وأجمعها لرضى الرعية، فغن سخط العامة يجحف برضا الخاصة، وإن سخط الخاصة يغتفر مع رضا العامة، وليس أحدٌ من الرعية أثقل على الوالي مؤونةً في الرخاء، وأقل معونةً له في البلاء، وأكره للإنصاف، وأسأل بالإلحاف، وأقل شكراً عند الإعطاء، وأبطأ عذراً عند المنع، وأضعف صيراً عند ملمات الدهر، من أهل الخاصة، وإنما عمود الدين، وجماع المسلمين، والعدة للأعداء العامة من الأمة. فلكين صغوك لهم، وميلك معهم، وليكن أبعد رعيتك منك، وأشنؤهم عندك، أطلبهم لمعايب الناس،: فأن في الناس عيوباً الوالي أحق بسترها، فلا تكشفن عما غاب عنك منها، فإنما عليك تطهير ما ظهر لك والله يحكم على ما غاب عنك منها فاستر العورة ما استطعت يستر الله ما تحب سترة من عيبك.
أطلق الناس من كل حقد، واقطع عنهم سبب كل وتر، وتغاب عن كل ما لا يضح لك، ولا تعجلن إلى تصديق ساع: فإن الساعي غاشٌ وإن تشبه بالناصحين، ولا تدخلن في مشورتك بخيلاً يعدل بك عن الفضل ويعدك الفقر، ولا جباناً يضعفك عن الأمور، ولا حريصاً يزين لك الشره بالجور: فإن البخل والجبن والحرص غرائز شتى يجمعها سوء الظن بالله.
إن شر وزرائك من كان للأشرار قبلك وزيراً من شاركهم في الآثام، فلا يكونن لك بطانة، فإنهم أعوان الأثمة، وإخوان الظلمة، وأنت واجدٌ منهم خير الخلف ممن له مثل آرائهم ونفاذهم، وليس عليه مثل آصارهم وأوزارهم: ممن لم يعاون طالماً على ظلمه، ولا آثماً على إثمه، أولئك أخف عليك مؤونةً، وأحسن لك معونة، وأحنى عليك عطفاً، وأفل لغيرك إلفاً، فاتخذ أولئك خاصةً لخلواتك وحفلاتك ثم ليكن أثرهم عندك أقولهم لك بمر الحق، وأقلهم مساعدةً فيما يكون منك مما كره الله لأوليائه، واقعا ذلك من هواك حيث وقع، والصق بأهل الورع والصدق، ثم رضهم على أن لا يطروك ولا يبجحوك بباطلٍ لم تفعله: فعن كثرة الإطراء تحدث الزهو وتدني من الغرة. ولا يكونن المحسن والمسيء عندك بمنزلةٍ واحدةٍ، فغن في ذلك تزهيداً لأهل الإحسان في الإحسان وتدريباً لأهل الإساءة على الإساءة.
وإنك لا تدري إذا جاء سائلٌ ** أأنت بما تعطيه أم هو اسعد!

عسى سائلٌ ذو حاجةٍ أن منعته ** من اليوم سؤلاً أن يكون له غد!

وفي كثرة الأيدي عن الجهل زاجرٌ ** وللحلم أبقى للرجال وأعود!

وعلى ذلك كتب أبو إسحاق الصابي عن الخليفة الطائع لله إلى فخر الدولة بن ركن الدولة بن بويه، في جمادى الأولى سنة ستٌ وستين وثلثمائة.
وهذه نسخته: هذا ما عهد عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين إلى فخر الدولة أبي الحسن بن ركن الدولة أبي علي مولى أمير المؤمنين حين عرف غناءه وبلاءه، واستصح دينه ويقينه، ورعى قديمه وحديثه، واستنجب عوده ونجاره. وأثنى عز الدولة أبو منصور بن معز الدولة أبي الحسين مولى أمير المؤمنين أيده الله عليه، وأشار بالمزيد في الصنيعة إليه، وأعلم أمير المؤمنين إقتداءه به في كل مذهب فيه من الخدمة، وغرضٍ رمى إليه من النصيحة، دخولاً في زمرة الأولياء المنصورة، وخروجاً عن جماعة الأعداء المدحورة وتصرفاً على موجبات البيعة التي بعز الدولة أبي منوطة، وعلى سائر من يتلوه ويتبعه مأخوذة مشروطة، فقلده الصلاة وأعمال الحرب، والمعاون، والأحداث، والخراج، والأعشار، والضياع، والجهبذة والصدقات، والجوالي، وسائر وجوه الجبايات والعرض والعطاء، والنفقة في الأولياء والمظالم وأسواق الرقيق والعيار في دور الضرب والطرز والحسبة بكور همذان، وأستراباذ والدينور، وقرميسين، والإيغارين، وأعمال أذربيجان، وأران، والسحانين، وموقان، واثقاً منه باستبقاء النعمة واستدامتها، والاستزادة بالشكر منها، والتجنب لغمطها وجحودها، والتنكب لإيحاشها وتنفيرها، والتعمد لما مكن له الحظوة والزلفى، وحرس عليه الأثرة والقربى، بما يظهره ويضمره من الوفاء الصحيح والولاء الصريح، والغيب الأمين، والصدر السليم، والمقاطعة لكل من قاطع العصبة، وفارق الجملة، والمواصلة لكل من حمى البيضة وأخلص النية- والكون تحت ظل أمير المؤمنين وذمته، ومع عز الدولة أبي منصور وفي حوزته، والله جل اسمه يعرف أمير المؤمنين حسن العقبى فيما أبرم ونقض، وسداد الرأي فيما رفع وخفض، ويجعل عزائمه مقرونة بالسلامة، محجوبةً عن موارد الندامة، وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل أمره بتقوى الله التي هي العصمة المتينة، والجنة الحصينة، والطود الأرفع، والمعاذ الأمنع والجانب الأعز، والملجأ الأحرز، وان يستشعرها سراً وجهراً، ويستعملها قولاً وفعلاً، ويتخذها ردءاً دافعاً لنوائب القدر، وكهفاً حامياً من حوادث الغير، فإنها أوجب الوسائل، وأقرب الذرائع، وأعودها على العبد بمصالحه، وادعاها إلى سبل مناجحه، وأولاها بالاستمرار على هدايته، والنجاة من غوايته، والسلامة في دنياه حين توبق موبقاتها، وتردي مردياتها، وفي آخرته حين تروع رائعتها وتخيف مخيفاتها. وأن يتأدب بآداب الله في التواضع والإخبات، والسكينة والوقار، وصدق اللهجة إذا نطق، وغض الطرف إذا رمق، وكظم الغيظ إذا أحفظ وضبط اللسان إذا أغضب، وكف اليد عن المثائم، وصون النفس عن المحارم. وأن يذكر الموت الذي هو نازل به، والموقف الذي هو صائر إليه، ويعلم أنه مسؤول عما اكتسب، مجزيٌ بما ترمك واحتقب ويتزود من هذا الممر، لذاك المقر، ويستكثر من أعمال الخير لتنفعه، ومن مساعي البر لتنقذه، ويأتمر بالصالحات قبل أن يأمر بها، ويزدجر عن السيئات قبل يزجر عنها، ويبتدئ بإصلاح نفسه قبل إصلاح رعيته: فلا يبعثهم على ما يأتي ضده، ولا ينهاهم عما يقترف مثله، ويجعل ربه قريباً عليه في خلواته، ومروءته مانعةً له من شهواته، فإن أحق من غلب سلطان الشهوة، وأولى من صرع أعداء الحمية، من ملك أزمة الأمور، واقتدر على سياسة الجمهور، وكان مطاعاً فيما يرى، متبعاً فيما يشاء، يلي على الناس ولا يلون عليهم، ويقتص منهم ولا يقتصون منه، فإذا اطلع الله منه على نقاء جيبه، وطهارة ذيله، وصحة سريرته، واستقامة سيرته، أعانه على حفظ ما استحفظه، وأنهضه بثقل ما حمله، وجعل له مخلصاً من الشبهة ومخرجاً من الحيرة، فقد قال تعالى: {ومن يتق الله يجعل له مخرجاً * ويرزقه من حيث لا يحتسب}. وقال عز من قال: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}. وقال: {اتقوا الله وكونوا مع الصادقين} إلى أيٍ كثيرةٍ حضنا بها على أكرم الخلق، وأسلم الطرق، فالسعيد من نصبها إزاء ناظره، والشقي من نبذها وراء ظهره، وأشقى منه من بعث عليها وهو صادف عنها، وأهاب إليها وهو بعيد منها، وله ولأمثاله يقول الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}.
وأمره أن يتخذ كتاب الله إماماً متبعاً، وطريقاً موقعاً، ويكثر من تلاوته إذا خلا بفكره، ويملأ بتأمله أرجاء صدره، فيذهب معه فيما أباح وحظر، ويقتدي به إذا نهى وأمر، ويستبين بيانه إذا استغلقت دونه المعضلات، ويستضيء بمصابيحه إذا غم عليه في المشكلات، فإنه عروة الإسلام الوثقى، ومحجته الوسطى، ودليله المقنع، وبرهانه المرشد، والكاشف لظلم الخطوب والشافي من مرض القلوب، والهادي لمن ضل، والمتلافي لمن زل، فمن لهج به فقد فاز وسلم ومن لهي عنه فقد خاب وندم، قال الله تعالى: {وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيمٍ حميد}.
وأمره أن يحافظ على الصلوات، ويدخل فيها في حقائق الأوقات، قائماً على حدودها، متبعاً لرسومها، جامعاً فيما بين نيته ولفظه، متوقياً لمطامح سهوه ولحظه، منقطعاً إليها من كل قاطع لها، مشغولاً بها عن كل شاغل عنها، متثبتاً في ركوعها وسجودها، مستوفياً عدد مفروضها ومسنونها، موفراً عليها ذهنه، صارفاً إليها همه، عالماً بأنه واقفٌ بين يدي خالقه ورازقه، ومحييه ومميته، ومثيبه ومعاقبه، لا تستتر دونه خائنة الأعين وما تخفي الصدور.
فإذا قضاها على هذه السبيل منذ تكبيرة الإحرام إلى خاتمة التسليم، أتبعها بدعاء يرتفع بارتفاعها، ويستمع باستماعها، ولا يتعدى فيه مسائل الأبرار، ورغائب الأخيار: من استفصاح واستغفار، واستقالة واسترحام، واستدعاء لمصالح الدين والدنيا، وعوائد الآخرة والأولى، فقد قال تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}، وقال تعالى: {وأقم الصلاة إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
وأمره بالسعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية، بعد التقدم في فرشها وكسوتها، وجمع القوام والمؤذنين والمكبرين فيها، واستسعاء الناس إليها، وحضهم عليها، آخذين الأهبة، متنظفين في البزة، مؤدين لفرائض الطهارة، بالغين في ذلك أقصى الاستطاعة، معتقدين خشية الله وخيفته، مدرعين تقواه ومراقبته، مكثرين من دعائه- عز وجل- وسؤاله، مصلين على محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله، بقلوب على اليقين موقوفة، وهمم إلى الدين مصروفة، وألسن بالتسبيح والتقديس فصيحة، فإن هذه المصليات والمتعبدات بيوت الله التي فضلها، ومساكنه التي شرفها، وفيها يتلى القرآن ومنها ترتفع الأعمال، وبها يلوذ اللائذون ويعوذ العائذون، ويتعبد المتعبدون، ويتهجد المتهجدون، وحقيقٌ على المسلمين أجمعين: من والٍ ومولى عليه أن يصونها ويعمروها، ويواصلوها ولا يهجروها. وأن يقيم الدعوة علة منابرها لأمير المؤمنين ثم لنفسه على الرسم الجاري فيها، قال الله تعالى في هذه الصلاة: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع}. وقال في عمارة المساجد: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}.
وأمره بأن يراعي أحوال من يليه، من طبقات جند أمير المؤمنين ومواليه، ويطلق لهم الأرزاق، في وقت الوجوب والاستحقاق، وأن يحسن في معاملتهم، ويجمل في استخدامهم، ويتصرف في سياستهم، بين رفق من غير ضعف، وخشونة من غير عنف، مثيباً لمحسنهم ما زاد بالإبانة في حسن الأثر، وسلم معها من دواعي الأشر، ومتغمداً لمسيئهم ما كان التغمد له نافعاً، وفيه ناجعاً، فإن تكررت زلاته، وتتابعت عثراته، تنأوله من عقوبته بما يكون له مصلحاً، ولغيره واعظاً. وأن يختص أكابرهم أماثلهم وأهل الرأي والخطر منهم بالمشاورة في الملم، والاطلاع على بعض المهم، مستخلصاً نخائل قلوبهم بالبسط والإدناء، ومستشحذاً بصائرهم بالإكرام والاحتفاء: فإن في مشاورة هذه الطبقة استلالاً على مواقع الصواب، وتحرزاً من غلط الاستبداد، وأخذاً بمجامع الحزامة، وأمناً من مفارقة الاستقامة، وقد حض الله على الشورى حيث قال لرسوله عليه الصلاة والسلام: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}.
وأمره بأن يعمد لما يتصل بنواحيه من ثغور المسلمين، ورباطات المرابطين، ويقسم لها قسماً وافراً من عنايته، ويصرف إليها طرفاً بل شطراً من رعايته، ويختار لها أهل الجلد والشدة، وذوي البأس والنجدة: ممن عجمته الخطوب، وعركته الحروب، واكتسب دربة بخدع المتناوبين، وتجربةً بمكايد المتقارعين، وأن يستظهر بتكثيف عددهم، واختيار عددهم، وانتخاب خيلهم، وإستجادة أسلحتهم، غير مجمر بعثاً إذا بعثه، ولامستكره إذا وجهه، بل يناوب بين رجاله مناوبةً تريحهم ولا تملهم، وترفههم ولا تؤودهم: فإن في ذلك من فائدةٍ الإجمام، والعدل في الاستخدام، وتنافس رجال النوب فيما عاد عليهم بعز الظفر والنصر، وبعد الصيت والذكر، وإحراز النفع والجر، ما يحق على الولاة أن يكونوا به عاملين، وللناس عليه حاملين. وأن يكرر على أسماعهم، ويثبت في قلوبهم، مواعيد الله لمن صابر ورابط، وسمح بالنفس وجاهد، من حيث لا يقدمون على تورط غرة، ولا يحجمون عن انتهاز فرصة، ولا ينكصون عن تورد معركة، ولا يلقون بأيديهم إلى التهلكة، فقد أخذ الله تعالى ذلك على خلقه، والمرامين عن دينه، وأن يزيح العلة فيما يحتاج إليه من راتب نفقات هذه الثغور وحادثها، وبناء حصونها ومعاقلها، واستطراق طرقها ومسالكها، وإفاضة الأقوات والعلوفات للمتربتين فيها والمترددين إليها والحامين لها. وأن يبذل أمانه لمن طلبه، ويعرض على من لم يطلبه. ويفي بالعهد إذا عاهد، وبالعقد إذا عاقد، غير مخفرٍ ذمة، ولا جارحٍ أمانة، فقد أمر الله تعالى بالوفاء فقال جل من قال: {فمن نكث فإنما ينكث على نفسه}.
وأمره أن يعرض من حبوس عمله على جرائرهم وإنعام النظر في جناياتهم وجرائمهم فمن كان إقراره واجباً أقره ومن كان إطلاقه سائغاً أطلقه. وأن ينظر في الشرطة والأحداث نظر عدل وإنصاف، ويختار لها من الولاة من يخاف الله تعالى ويتقيه، ولا يحابي ولا يراقب فيه، ويتقدم إليهم بقمع الجهال وردع الضلال، وتتبع الأشرار، وطلب الدعار، مستدلين على أماكنهم، متوغلين إلى مكامنهم، متولجين عليهم في مظانهم، متوثقين ممن يجدونه منهم، منفذين أحكام الله تعالى فيهم بحسب الذي يتبين من أمرهم، ويتضح من فعلهم، في كبيرةٍ ارتكبوها، وعظيمةٍ احتقبوها، ومهجةٍ أفاظوها واستهلكوها، وحرمةٍ أباحوها، وانتهكوها: فمن استحق حداً من حدود الله المعلومة أقاموه عليه غير مخففين منه، وأحلوه به غير مقصرين عنه، بعد أن لا يكون عليهم في الذي يأتون به حجةً ولا يعترضهم في وجوبه شبه: فإن الواجب في الحدود أن تقام بالبينات، وأن تدرأ بالشبهات، فأولى ما توخاه رعاة الرعايا فيها أن لا يقدموا عليها مع نقصان، ولا يتوقفوا عنها مع قيام دليل وبرهان. ومن وجب عليه القتل احتاط عليه بما يحتاط به على مثله: من الحبس الحصين، والتوثق الشديد، وكتب إلى أمير المؤمنين بخبره، وشرح جنايته، وثبوتها بإقرار يكون منه، أو بشهادةٍ تقع عليه، ولينتظر من جوابه ما يكون عمله بحسبه، فإن أمير المؤمنين لا يطلق سفك دم مسلمٍ أو معاهدٍ إلا ما أحاط به علماً، وأتقنه فهماً، وكان ما يمضيه فيه عن بصيرة لا يخالطها شك، ولا يشوبها ريب. ومن ألم بصغيرةٍ من الصغائر، ويسيرةٍ من الجرائر، من حيث لم يعرف له مثلها، ولم تتقدم منه أختها، وعظه وزجره، ونهاه وحذره، واستتابه وأقاله، ما لم يكن عليه خصم في ذلك يطالب بقصاصٍ منه، وجزاءٍ له، فأن عاد تنأوله من التقويم والتهذيب، والتعزيز والتأديب، بما يرى أنه قد كفى فيما اجترم، ووفى بما قدم، فقد قال تعالى: {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.
وأمره أن يعطل ما في أعماله من الحانات والمواخير، ويطهرها من القبائح والمناكير، ويمنع من تجمع أهل الخنا فيها وتألف شملهم بها: فإنه شمل يصلحه التشتيت، وجمع يحفظه التفريق وما زالت هذه المواطن الذميمة والمطارح الدنيئة، داعية لمن يأوي إليها، ويعكف عليها، إلى ترك الصلوات، وإهمال المفترضات وركوب المنكرات، واقتراف المحظورات، وهي بيوت الشيطان التي في عمارتها الله تعالى مغضبة، وفي إخرابها للخير مجلبة، والله تعالى يقول لنا معشر المؤمنين: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}. ويقول عز من قال لغيرنا من المذمومين: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غياً}.
وأمره أن يولي الحماية في هذه الأعمال، أهل الكفاية والغناء من الرجال، وأن يضم إليهم كل من خف ركابه، وأسرع عند الصريخ جوابه، مرتباً لهم في المسالح، وساداً بهم ثغر المسالك وأن يوصي بالتيقظ، ويأخذهم بالتحفظ، ويزيح عللهم في علوفة خيلهم، والمقرر من أزوادهم وميرهم، حيى لا تثقل لهم على البلاد وطأة، ولا تدعوهم إلى تحيفهم وثلمهم حاجة، وأن يحوطوا السابلة بادئةً وعائدة، ويتداركو القوافل صادرةً وواردة، ويحرسوا الطرق ليلاً ونهاراً وينفضوها رواحاً وإبكاراً، وينصبوا لأهل العيث الأرصاد، ويتكمنوا لهم بكل واد، ويتفرقوا عليهم حيث يكون التفرق مضيقاً لفضائهم، ومؤدياً إلى انفضاضهم، ويتجمعوا حيث يكون الاجتماع مطفئاً لجمرتهم، وصادعاً لمروتهم، وأن لا يخلو هذه السبل من حماةٍ لها وسيارة فيها: يترددون في جواديها، ويتعسفون في عواديها، حتى تكون الدماء محقونة، والأموال مصونة، والفتن محسومةً والغارات مأمونة، ومن حصل في أيديهم من لصٍ خاتل، وصعلوك خارب، ومخيفٍ لسبيل، ومنتهك لحريم، امتثل فيه أمر أمير المؤمنين الموافق لقول الله تعالى: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفضوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم}.
وأمره بوضع الرصد على ما يجتاز في أعماله من أباق بعيد، والاحتياط عليهم وعلى ما يكون معهم، والبحث عن الأماكن التي فارقوها، والطرق التي استطرقوها، ومواليهم الذين أبقوا منهم، ونشزوا عنهم، وأن يردوهم عليهم قهراً، ويعيدوهم إليهم صغراً، وأن ينشدوا الضالة بما أمكن أن تنشد، ويحفظوها على ربها بما جاز أن تحفظ، ويتجنبوا الامتطاء لظهورها والانتفاع بأوبارها وألبانها مما يجز ويحلب، وأن يعرفوا اللقطة ويتبعوا أثرها، ويشيعوا خبرها. فإذا حضر صاحبها وعلم أنه مستوجبها سلمت إليه، ولم يعترض فيها عليه، فإن الله عز وجل يقول: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}. ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ضالة المؤمن حرق النار».
وأمره أن يوصي عماله بالشد على أيدي الحكام، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام، وان يحضروا مجالسهم حضور الموقرين لها، الذابين عنها، المقيمين لرسوم الهيبة وحدود الطاعة فيها، ومن خرج عن ذلك من ذي عقل سخيف، وحلم ضعيف، نالوه بما يردعه، وأحلوا بما يزعه، ومتى تقاعس متقاعسٌ عن حضورٍ مع خصم يستدعيه، وأمرٍ يوجه الحاكم إليه فيه، أو التوى ملتوٍ بحقٍ يحصل عليه، ودين يستقر في ذمته، قادوه إلى ذلك بأزمة الصغار، وخزائم الاضطرار، وأن يحبسوا ويطلقوا بأقوالهم، ويثبتوا الأيدي في الأملاك والفروج وينزعوها بقضاياهم، فإنهم أمناء الله في فصل ما يفصلون وبت ما يبتون، وعن كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم يوردون ويصدرون وقد قال تعالى: {يا داواد إنا جعلناك خليفةً في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذابٌ شديد بما نسوا يوم الحساب}. وأن يتوخى بمثل هذه المعاملة عمال الخراج في استيفاء حقوق ما استعملوا عليه، واستنطاف بقاياهم فيه، والرياضة لمن تسوء طاعته من معامليهم، وإحضارهم طائعين أو كارهين بين أيديهم، فمن آداب الله تعالى للعبد التي يحق عليه أن يتخذها أدباً ويجعلها إلى الرضا عنه سبباً، قوله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}.
وأمره أن يجلس للرعية جلوساً عاماً، وينظر في مطالبها نظراً تاماً، ويساوي في الحق بين خاصها وعامها، ويوازي في المجالس بين عزيزها وذليلها، وينصف المظلوم من ظالمه، والمغصوب من غاصبه، بعد الفحص والتأمل والبحث والتبين، حتى لا يحكم إلا بالعدل ولا ينطق إلا بفصل، ولا يثبت يداً إلا فيما وجب تثبيتها فيه، ولا يقبضها إلا عما وجب قبضها عنه، وأن يسهل الإذن لجماعتهم، ويرفع الحجاب بينه وبينهم، ويوليهم من حصانة الكنف، ولين المنعطف، والاشتمال والعناية، والصون والرعاية، ما تتعادل فيه أقسامهم، وتتوازن منه أقساطهم، ولا يصل المكين منهم إلى استضامة من تأخر عنه، ولا ذو السلطان إلى هضيمة من حل دونه. وأن يدعوهم إلى أحسن العادات والخلائق ويحضهم على أجمل المذاهب والطرائق، ويحمل عنهم كله، ويمد عليهم ظله، ولا يسومهم خسفاً، ولا يلحق بهم حيفاً، ولا يكلفهم شططاً، ولا يجشمهم مضلعاً، ولا يثلم لهم معيشة، ولا يداخلهم في جريمة، ولا يأخذ منهم بريئاً بسقيم، ولا حاضراً بعديم، فإن الله عز وجل نهى أن تزر وازرةٌ وزر أخرى، وجعل كل نفسٍ رهينةً بمكسبها بريئةً من مكاسب غيرها. ويرفع عن هذه الرعية ما عسى أن يكون سن من سنة ظالمة، وسلك بها من محجة جائرة، ويستقري آثار الولاة قبله عليها، فيما ازجوه من خير أو شرٍ إليها: فيقر من ذلك ما طاب وحسن ويزيل ما خبث وقبح: فإن من يغرس الخير يحظى بمعسول ثمره، ومن يزرع الشر يصلى بمرور ريعه، والله تعالى يقول: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه والذي خبث لا يخرج إلا نكداً كذلك نصرف الآيات لقومٍ يشكرون}.
وأمره أن يصون أموال الخراج وأثمان الغلات، ووجوه الجبايات، موفراً ويزيد ذلك مثمراً، بما يستعمله من الإنصاف لأهلها، وإجرائهم على صحيح الرسوم فيها: فإنه مال الله الذي به قوة عباده، ودرور حلبه، واتصال مدده، وبه يحاط الحريم، ويدفع العظيم، ويحمى الذمار، وتذاد الأشرار. وأن يجعل افتتاحه إياه بحسب إدراك أصنافه، وعند حضور مواقيته وأحيانه غير مستسلف شيئأ قبلها، ولا مؤخر لها عنها، وأن يخص أهل الطاعة بالسلامة والترفيه لهم وأهل الاستصعاب والامتناع بالتشدد عليهم: لئلا يقع إرهاقٌ لمذعن، أو إهمالٌ لطامعٍ. وعلى المتولي لذلك أن يضع كلاً من الأمرين موضعه، ويوقعه موقعه، متجنباً إحلال الغلطة بمن لا يستحقها، وإعطاء الفسحة لمن ليس من أهلها، والله تعالى يقول: {وأن ليس للإنسان إلا ما سعى * وأن سعيه سوف يرى * ثم يجزاه الجزاء الأوفى}.
وأمره بأن يتخير عماله على الأعشار، والخراج، والضياع، والجهبذة، والصدقات، والجوالي، من أهل الظلف والنزاهة، والضبط والصيانة، والجزالة والشهامة، وأن يستظهر مع ذلك عليهم بوصيةٍ يوعيها أسماعهم، وعهودٍ يقلدها أعناقهم، بأن لا يضيعوا حقاً، ولا يأكلوا سحتاً، ولا يستعملوا ظلماً، ولا يقارفوا غشماً. وأن يقيموا العمارات ويحتاطوا على الغلات ويتحرزوا من ترك حقٍ لازم أو تعطيل رسم عادل، مؤدين في جميع ذلك الأمانة، مجتنبين للخيانة. وان يأخذوا جهابذتهم باستيفاء وزن المال على تمامه، واستجادة نقده على عياره، واستعمال الصحة في قبض ما يقبضون، وإطلاق ما يطلقون. وأن يوعزوا إلى سعاة الصدقات بأخذ الفرائض من سائمة مواشي المسلمين دون عاملتها، وكذلك الواجب فيها، وأن لا يجمعوا فيها متفرقاً ولا يفرقوا مجتمعاً، ولا يدخلوا فيها خارجاً عنها، ولا يضيفوا إليها ما ليس منها: من فحل إبلٍ أو أكولة راع، أو عقيلة مال، فإذا اجتبوها على حقها، واستوفوها على رسمها، أخرجوها في سبيلها، وقسموها على أهلها الذين ذكرهم الله تعالى في كتابه، إلا المؤلفة قلوبهم الذين سقط سهمهم، فإن الله تعالى يقول: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضةً من الله والله عليمٌ حكيم}. وإلى جباة جماجم أهل الذمة أن يأخذوا منهم الجزية في المحرم من كل سنة بحسب منازلهم في الأحوال، وذات أيديهم في الأموال، وعلى الطبقات المطبقة فيها والحدود المحدودة المعهودة لها، وأن لا يأخذوا من النساء، ولا ممن لم يبلغ الحلم من الرجال ولا من ذي سنٍ عالية، ولا ذي علة بادية، ولا فقير معدم ولا مترهب متبتل، وأن يراعي جماعة هؤلاء العمال مراعاةً يسرها ويظهرها، ويلاحظهم ملاحظة يخفيها ويبديها: لئلا يزولوا عن الحق الواجب، أو يعدلوا عن السنن اللاحب، فقد قال تعالى: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسؤولا}.
وأمره أن يندب لعرض الرجال وإعطائهم، وحفظ جراياتهم وأوقات إطعامهم، من يعرفه بالثقة في متصرفه، والأمانة فيما يجري على يده، والبعد عن الإسفاف إلى الدنية، والاتباع إلى الدناءة، وأن يبعثه على ضبط حلى الرجال وشيات الخيل، وتجديد العرض بعد الاستحقاق وإيقاع الاحتياط في الإنفاق، فمن صح عرضه ولم يبق في نفسه شيء منه: من شكٍ يعرض له، أو ريبةٍ يتوهمها، أطلق أمواله موفورة، وجعلها في أيديهم غير مثلومة، وأن يرد على بيت المال أرزاق من سقط بالوفاة والإخلال، ناسباً ذلك إلى جهته، ومسوداً له على حقيقته. وأن يطالب الرجال بإحضار الخيل المختارة، والآلات المستكملة المستعملة على ما توجبه مبالغ أرزاقهم، وحسب منازلهم ومراتبهم، فإن أخر أحدهم شيئاً من ذلك قاصه به من رزقه وأغرمه مثل قيمته، فإن المقصر فيه خائنٌ لأمير المؤمنين، ومخالف لرب العالمين، إذ يقول الله سبحانه: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}.
وأمره أن يعتمد في أسواق الرقيق ودور الضرب والحبة والطرز، على من تجتمع فيه آلات هذه الولايات: من ثقةٍ ودراية، وعلم وكفاية، ومعرفةٍ ودراية، وتجربة وحنكة، وحصافة ومسكة، فإنها أحوال تضارع الحكم وتناسبه، وتدانيه وتقاربه، وأن يتقدم إلى ولاة أسواق الرقيق بالتحفظ فيمن يطلقون بيعه، ويمضون أمره، والتحرز من وقوع تجوزٍ فيه، وإهمالٍ له، إذ كان ذلك عائداً بتحصين الفروج، وتطهير الأنساب. وأن يبعدوا عن أهل الريبة، ويقربوا أهل العفة، ولا يمضوا بيعاً على شبهة، ولا عقداً على تهمة. وإلى ولاة العيار، بتخليص عين الدرهم والدينار: ليكونا مضروبين على البراءة من الغش، والنزاهة من المش وبحسب الإمام، المقرر بمدينة السلام، وحراسة السكك من أن تداولها الأيدي المدغلة، وتتناقلها الجهات الظنينة، وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما يضرب منها ذهباً وفضة، وإجراء ذلك على الرسم والسنة. وإلى ولاة الطرز بأن يجروا الاستعمال في جميع المناسج على أتم النقية، وأسلم الطريقة، وأحكم الصنعة، وأفضل الحصة، وأن يثبتوا اسم أمير المؤمنين على طرز الكسا، والفرش والأعلام والبنود. وإلى ولاة الحسبة بتصفح أحوال العوام في حرفهم ومتاجرهم، مجتمع أسواقهم ومعاملاتهم، وأن يعايروا الموازين والمكاييل، يفرزوها على التعديل والتكميل، ومن اطلعوا منه على حيلةٍ أو تلبيس، أو غيلةٍ أو تدليس، أو بخس فيما يوفيه، أو استفضال فيما يستوفيه، نالوه بغليظ العقوبة وعظيمها، وخصوه بوجيعها وأليمها، واقفين به في ذلك عند الحد الذي يرونه لذنبه مجازياً، وفي تأديبه كافياً فقد قال الله تعالى: {ويلٌ للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، وحجته عليك، وقد وقفك به على سواء السبيل، وأرشدك فيه إلى واضح الدليل، وأوسعك تعليماً وتحكيماً، وأقنعك تعريفاً وتفهيماً ولم يألك جهداً فيما عصمك وعصم على يديك، ولم يدخرك ممكناً فيما أصلح بك وأصلحك، ولا ترك لك عذراً في غلطٍ تغلطه، ولا طريقاً إلى متورطٍ تتورطه، بالغاً بك في الأوامر والزواجر إلى حيث يلزم الأئمة أن يندبوا الناس إليه، ويحثوهم عليه، مقيماً لك على منجيات المسالك، صارفاً بك عن مرديات المهالك، مريداً فيك ما يسلمك في دينك ودنياك، ويعود بالحظ عليك في آخرتك وأولاك، فإن اعتدلت وعدلت فقد فزت وغنمت، وغن تجانفت واعوججت فقد خسرت وندمت، والأولى بك عند أمير المؤمنين مع مغرسك الزاكي، ومنبتك النامي، وعودك الأنجب، وعنصرك الأطيب، أن تكون لظنه بك محققاً، ولمخيلته فيك مصدقاً، وأن تستزيد بالأثر الجميل قرباً من رب العالمين وثواباً يوم الدين، وزلفى عند أمير المؤمنين، وثناءً حسناً من المسلمين، فخذ ما نبذ إليك أمير المؤمنين من معاذيره، وأمسك بيدك على ما أعطى من مواثيقه، واجعل عهده هذا مثلاً تحتذيه، وإماماً تقتفيه، واستعن بالله يعنك، واستهده يهدك، وأخلص إليه في طاعته، يخلص لك الحظ من معونته، ومهما أشكل عليك من الخطب، أو أعضل عليك من صعب، أو بهرك من باهر، أو بهظك من باهظ، فاكتب إلى أمير المؤمنين به منهياً، وكن إلى ما يرد من جوابه عليك منتهياً، إن شاء الله تعالى. والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وكتب نصير الدولة الناصح أبو طاهر يوم الأحد لثلاث عشرة ليلةً خلت من جمادى الأولى سنة ست وستين وثلثمائة.
وعلى هذا الأسلوب كتب أمين الدين أبو سعيد، العلاء بن وهب بن موصلايا عن القائم بأمر الله عهد أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، بسلطنة الأندلس وبلاد المغرب، بعد العشرين والأربعمائة، فيما رأيته في ترسل ابن موصيلا المذكور.
وهذه نسخته بعد البسملة الشريفة:
هذا ما وعد عبد الله ووليه، عبد الله القائم بأمر الله أمير المؤمنين، إلى فلان حين انتهى إليه ما هو عليه من ادراع جلابيب الرشاد في الإصدار والإيراد، واتباع سنن من أبدى وأعاد، فيما يجمع خير العاجلة والمعاد، والتخصيص من حميد الأنحاء والمذاهب، بما يستمد منه أصناف الآلاء والمواهب، والتحلي من السداد الكامل، بما فاز فيه بامتطاء الغارب من الجمال والكاهل، واتضح ما هو مثبت به من صحة الدين واليقين، والمواظبة من اكتساب رضا الله تعالى على ما هو أقوى الظهير والمعين، في ضمن ما طوى عليه ضلوعه، وأدام لهجه به وولوعه: من موالاةٍ لأمير المؤمنين يدين الله تعالى بها، ويرجو النجاة من كل مخوف باستحكام سعيها، ومشايعةٍ لدولته ساوى فيها بين ما أظهر وأسر، وأمل في اجتناء ثمرها كل ما أبهج وسر، فولاه الصلاة بأعمال المغرب، والمعاون، والأحداث، والخراج، والضياع، والأعشار، والجهبذة، والصدقات، والجوالي، وسائر وجوه الجبايات، والعرض، والعطاء والنفقة في الأولياء، والمظالم، وأسواق الرقيق، والعيار في دور الضرب، والطرز، والحسبة، ببلاد كذا وكذا: سكوناً إلى استقلاله بأعباء ما استكفاه إياه، واستقباله النعمة عله في ذلك بكل ما ينشر ذكره ويطيب رياه، وثقةً بكونه للصنيعة أهلاً، وبأفياء الطاعة الإمامية مستظلاً، وتوفرةً على ما يزيده بحضرة أمير المؤمنين حظوة ترد باع الخطوب عنه قصيراً، وتمد مقاصده من التوفيق بما يضحى له في كل حالةٍ نصيراً، وعلماً بما في اصطناعه من مصلحةٍ تستنير أهلتها، وتستثير من شبه الغي شواهدها وأدلتها، والله تعالى يصل مرامي أمير المؤمنين بالإصابة، ويعينه على ما يقر كل أمريء في حقه ويحله نصابه، ويحسن له الخطرة في كل ما يغدو له ممضياً، ولمطايا الاجتهاد في فعله منضياً، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل وإليه ينيب.
وأمره باعتماد تقوى الله تعالى في الإعلان والإسرار، واعتقاد الواجب من الإذعان بفضلها والإقرار، وأن يأوي منها إلى أمنع المعاقل وأحصنها، ويلوي عنان الهدى فيها إلى أجمل المقاصد وأحسنها، ويجعلها عمدته يوم تعدم الأنصار، وتشخص الأبصار: ليجتني من ثمرها ما يقيه مصارع الخجل، ويجتلي من مطالعها ما يؤمنه من طوارق الوجل، ويرد بها من رضا الله تعالى أصفى المشارب، ويجد فيها من ضوال المنى أنفس المواهب: فإنها أبقى الزاد وأدعى في كل أمر إلى وري الزناد، وقد خص الله بها المؤمنين من عباده، وحض منها على ما هو أفضل عدة المرء وعتاده، فقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون}.
وأمره بأن يأتم بكتاب الله تعالى مستضيئاً بمصباحه، مستضيماً لسلطان الغي بالوقوف عند محظوره ومباحه، ويقصد الاستبصار بمواعظه وحكمه، والاستدرار لصوب التوفيق في الرجوع إلى متقنه ومحكمه، ويجعله أميراً على هواه مطاعاً وسميراً لا يرى أن يكشف عنه قناعاً، ودليلاً إلى النجاة من كل ما يخاف أثامه، وسبيلاً إلى الفوز في اليوم الذي يفسر عن فصل الحساب لثامه، ويتحقق موقع الحظ في إدامة درسه، وصلة يومه في التأمل بأمسه، فإنه يبدي طريق الرشد لكل مبدي في العمل به معيد: {وإنه لكتابٌ عزيزٌ * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد}.
وأمره أن يحفظ على الصلوات قائماً بشروطها وحدودها، وشائماً بروق التوفيق في أداء فروضها وحقوقها، ومسارعاً إليها في أوقاتها بنيةٍ عائفةٍ مناهل الكدر والرنق، عارفةٍ بما في إخلاصها من نصرة الهدى وطاعة الحق، وموفراً عليها من ذهنه، ما الحظ كامن في طيه وضمنه، وموفياً لها من الركوع والسجود، ما الرشاد فيه صادق الدلائل والشهود، متجنباً ان يلهيه عنها من هواجس الأفكار وواس القلب العون منها والأبكار، ما يقف فيه موقف المقصر الغالط، وينزل فيه منزلة الجاحد للنعم الغامط، وقد أمر الله تعالى بها وفرضها على المؤمنين وأوجبها وحث من إقامتها، على ما يفضي إلى صلاح المقاصد واستقامتها، فقال عز من قائل: {فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}.
وأمره بالسعي في أيام الجمع إلى المساجد الجامعة، وفي الأعياد إلى المصليات الضاحية، بعد أن يتقدم في عمارتها، وإعداد الكسوة لها، بما يؤدي إلى كمال حلالها، ويحظي من حسن الذكر بأعذب الموارد وأحلاها، ويوعز بالاستكثار من المكبرين فيها والقوام، وترتيب المصابيح العائدة على شمل جمالها بالاتساق والانتظام: فإنها بيوت الله تعالى التي تتلى بها آياته، وعلى فيها أعلام الشرع وراياته، وأن يقيم الدعوة على ونارها لأمير المؤمنين، ولولي هذه العدة للدين، أبي القاسم عبد الله بن محمد ابن أمير المؤمنين، أدام الله به الإمتاع، وأحسن عن ساحته الدفاع، ثم لنفسه جاريا في ذلك على ما ألف من مثله، وسالكاً منه أقوم مسالك الاهتداء وسبله، وقد بين الله تعالى ما في عمارتها من دلائل الإيمان، والفوز بما يعطي من سخط الله تعالى أوثق الأمان، في قوله سبحانه: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر وأقام الصلاة وآتى الزكاة ولم يخش إلا الله فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين}. وفال في الحث على السعي إلى الجوامع التي يذكر فيها اسمه، ويظهر عليها منار الإسلام ورسمه: {يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله}.
وأمره أن يعتمد في إخراج الزكاة ما أمر الله تعالى به، وهدى منه إلى أرشد فعلٍ وأصوبه، ويقوم بذلك القيام، الذي يحظيه بجميل الذكر، وجزيل الأجر ويشهد له بزكاء المغرس وطيب النجر، ويقصد في أداء الواجب منه ما يصل أمسه في التوفيق بيومه، ويطلق الألسنة بحمده ويكفها عن لومه، متجنباً من إخلالٍ بما نص عليه في هذا الباب، أو إهمالٍ فيه لما يليق بذوي الديانة وأولي الألباب، ومتوخياً في المسارعة إليه ما يتطهر به من الأدناس، ويتوفر به حسن الأحدوثه عنه بين الناس، فقد جعل الله تعالى الزكاة من الفروض التي لا سبيل إلى المحيد عنها، ولا دليل في الفوز أوفى منها، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأخذها من أمته، وأبان عن كونها مما يجتنى كل مرغوبٍ فيه من ثمرته، ووصل الأمر له في ذلك بما يوجب فضل المسابقة إلى قبوله: لما فيه من الحظ الكامل في استنارة غرره وحجوله، في قوله سبحانه: {خذ من أموالهم صدقةً تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكنٌ لهم والله سميعٌ عليم}.
وأمره أن يهذب من الدنس خلاله، ويصل بأقواله في الخير أفعاله، ويمتنع من تلبية داعي الهوى المضل، ويبع سنن المتفيء بالهدى المستظل، ويقبض يده على كل محرم توثق أشراكه وتوبق غوائله، وتؤذن بسوء المنقلب شواهده ودلائله، ويجعل له من نهاره رقيباً على نفسه يصونها عن مراتع الغي ومطارحه، وأميناً يصد عن مسارب الإثم ومسارحه، فإنها لا تزال أمارةً بالسوء إن لم تقد إلى جدد الرشد، وتقم لها سوقٌ من الوعظ يبلغ فيها أقصى الغاية والأمد، فالسعيد من أضحى لها عند سورة الغضب وازعاً، ولأنحى عليها بلوم يغدو معه عن كل ما يسخط الله تعالى نازعاً، وأن يتنزهه عن النهي عما هو له مرتكب، والأمر بما هو له مجتنب: إذا كان ذلك بالهجنة حالياً، وبين المرء وبين مقاصد هديه حائلاً، قال الله تعالى: {أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون}.
وأمره أن يضفي على ما قبله من أولياء أمير المؤمنين وجنوده، أصناف جلابيب الإحسان، وبروده، ويخصهم من جزيل حبائه بما يصلون منه إلى أبعد المدى، ويملكون به نواصي الآمال ويدركون قواصي المنى، ويميز من أدى واجبه في الطاعة وفرضه وأبدى صفحته في الغناء بين يديه بمزيدٍ من الاشتمال يرهف بصيرة كلٍ منهم في التوفر على ما وافقه، ووصل بأنفه في التقرب إليه سابقه، ويدعو المقصر إلى الاستبصار في اعتماد ما يلحق فيه رتبة من فازت في الحظوة قداحه، وفاتت الوصف غرره في الزلفة وأوضاحه: ليمرح به في الاغتذاء بابان النعمة، كما انتهج جدده في إحسان الخدمة، وأن يرجع إلى آراء ذوي الحنكة منهم مستضيئاً بهم مسترشداً، وطالباً ضوال الرأي الثاقب ومنشداً، وقد بين الله فضل المشورة التي جعلها للألباب لقاحاً، وفي حنادس الشكوك مصباحاً، حيث أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بها، وبعثه منها على أسد الأفعال وأصوبها، فقال تعالى: {وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله}.
وأمره أن يعدل في الرعايا قبله، ويحلهم من الأمن هضابه وقلله، ويمنحهم من الاشتمال، ما يمحي به أمورهم من الاختلال، ويحوي به من طيب الذكر بحسب ما اكتسب من رضي الأنحاء والخلال، ويضفي على المسلم منهم والمعاهد من ظل رعايته ما يساوي فيه بين القوي والضعيف، ويلحق التليد منهم بالطريف: ليكون الكل وادعين في كنف الصون، راجعين غلى الله تعالى في إمدادهم بالتوفيق وحسن الطاعة والعون. وأن ينظر في مظالمهم نظراً ينصر الحق فيه، وينشر علم العدل في مطاويه، وينصف معه بعضهم من بعض، وينصب به لهم من اهتمامه أسنى قسم وحظ، مليناً لهم في ذلك جانبه، ومبيناً ما يظل به كاسب الأجر وجالبه، ويزيل عنهم ما شرعه ظلمة الغلمان بتلك الأعمال، ويديل من تلك الحلال باستئناف ما يوطؤهم كواهل الآمال، جامعاً لهم بين العدل والإحسان، وجاعلاً أمر الله تعالى في ذلك ملتقىً بالطاعة الواضحة الدليل والبرهان، قال الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.
وأمره بأن يكون للمعروف آمراً، وعن المنكر زاجراً، والله تعالى في إحياء الحق وإماتة الباطل متاجراً، وأن يشد من الساعين في ذلك والداعين إليه، ويعد القيام بهذه الحال من أفضل ما يتقرب به إلى الله تعالى يوم العرض عليه. ويتقدم بتعطيل ما في أعماله من المواخير ودحضها، وإزالة آثارها ومحوها، فإنها مواطن بالمخازي آهلة، ومن مشارب المعاصي ناهلة، وقد أسست على غير التقوى مبانيها، وأخليت من كل ما يرضي الله تعالى مغانيها، وقد أبان الله تعالى عن فضل الطائفة التي ظلت بالمعروف آمرةً وعن المنكر ناهية، وضنت بما ترى فيه عن مقاصد الخير ذاهلةً لاهية، فقال: {كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله}.
وأمره أن يرتب لحماية الطرقات من يجمع إلى الصرامة والشهامة، سلوك محاج الرشاد والاستقامة، ويجعل التعفف عن ذميم المراتع شاهداً بتوفيق الله إياه، وعائداً إليه بما تحمد مغبته وعقباه، ويأمر بحفظ السابلة، واختصاصهم بالحراسة السابغة الشاملة، وحماية القوافل واردةً وصادرة، واعتمادها بما تغدو به إلى السلامة مفضية صائرة: لتحرس الدماء مما يبيحها ويريقها، والأموال مما يقصد فيه سبيل الإضاعة وطريقها، وأن يخوفهم نتائج التقصير ويعرفهم مناهج التبصير، وأن عليهم رقباء يلاحظون أمورهم ويوضحونها، ليكون ذلك داعياً إلى التحوط والتحرز، واعتماد الميل إلى جانب الصحة والتحيز، ويوجب لهم من بعد ما يكفي أمثالهم مثله، ويكف أيديهم عن الامتداد إلى ما تذم سبله، فإن أخل أحدهم بما حد له، أو مزج بالسوء عمله، جزاه بحسب ذلك وموجبه، قال الله تعالى: {من يعمل سوءاً يجز به}.
وأمره أن يتقدم إلى نوابه في الأعمال بوضع الرصد على من يجتاز من العبيد الأباق، والاستظهار عليهم بحسب العدل والاستحقاق واستعلام أماكنهم التي فصلوا عنها، ومواطنهم التي بعدوا منها، فإذا وضحت أحوالهم وبانت، وانحسمت الشكوك في بابهم وزالت، أعادوهم إلى مواليهم أبوا أم شاءوا، وأصفوا نياتهم في الرجوع إليهم أم شأبوا. وأن يقصدوا إنشاد الضوال، ويجتهدوا من إظهار أمرها بما يغدو جمال الذكر به في الظلال، ويتجنبوا أن يمتطوا ظهورها بحال، أو يمدوا أيديهم إلى منافعها في إسرار وإعلان، حتى إذا حضر أربابها سلمت إليهم بالنعوت والأوصاف، وأجري الأمر في ذلك على ما يضحى به علم العدل عالي المنار حالي الأعطاف، فقد أمر الله تعالى بأداء الأمانات إلى أهلها، وهدى من ذلك إلى أوضح محاج الصحة وسبلها، فقال: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل}.
وأمره أن يختار للنظر في المعاون والأجلاب من يرجع إلى دينٍ يحميه من مهاوي الزلل وصلفٍ عن مد اليد إلى أسباب المطامع، وكلفٍ بما يعدوا على ما كلف إياه بصلاحٍ مشرق المطالع، ومعرفة بما وكل إليه كافيةٍ وافية، ولما يوجب الاستزادة له ماحيةٍ نافية، ويوعز إليهم بالتشمير في طلب الدعار، من جميع الأماكن والأقطار، وحسم مواد العار في بابهم والمضار. وأن يمضوا فيهم حكم اله بحسب مقاصدهم في الضلال، وتجرى أمورهم على قانون الشرع المنير في حنادس الظلام، ممتنعين أن يراقبوا من لم يراقب الله تعالى في فعله، ويجانبوا الصواب بقبول الشفاعة فيمن شهدت آثاره بذميم سبله، وإذا وقع الظفر بجانٍ قد كشف في الغي قناعه، وأظهرت مساعيه إباءه من إجابة داعي الرشد وامتناعه، أقيم حد الله تعالى فيه من غير تعدٍ للواجب، ولا تعرٍ من ملابس السالكين للجدد اللاحب، {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون}.
وأمره أن يوعز إلى أصحاب المعاون، بأن يشدوا من القضاة والحكام، ويجدوا في إجراء أمورهم على أوفى شروط الضبط والإقدام، ويأمرهم بحضور مجالسهم لتنفيذ أحكامهم وإمضائها، والمسارعة إلى حث مطايا التشمير في ذلك وإنضائها، والتصرف على أمثلتهم في إحضار الخصوم إذا امتنعوا، وسوقهم إلى الواجب إذا زاغوا عنه وانحرفوا، وأن يتقدم بإمداد عمال الخراج بما يؤدي إلى قوة أيديهم في استيفاء مال الفيء واجتبائه، واعتماد ما ينصر الحقوق في مطاويه وأثنائه، إذا كان في ذلك من الصلاح الجامع، وكف المضار وحسم المطامع، ما المعونة عليه واجبة، وللتوفيق مقارنةٌ مصاحبة، قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان واتقوا الله إن الله شديد العقاب}.
وأمره بعرض من تضمه الحبوس من أهل الجرائم والجرائر، وتأمل أحوالهم في الموارد والمصادر، والرجوع إلى متولي الشرطة في ذكر صورة كلٍ منهم والسبب في حبسه، والتعيين من ذلك على ما يعرف به صحة الأمر من لبسه، فمن ألفي منهم للذنوب آلفاً، وعن سنن الصواب منحرفاً، ترك بحاله، وكف بإطالة اعتقاله عن مجاله في ميادين ضلاله، وإن وجد منهم من وجب عليه الحد، أقيم فيه بحسب مل يقتضيه الحق، ومن اعترضت في بابه شبهة تجوز إسقاط الحد عنه ودرأه، اعتمد إلحاقه في ذلك بمن اتصل إليه صوب الإحسان ودره، ومن يكن له جرم وتظهر صحة شاهده ودليله، قدم الأمر في إطلاقه وتخلية سبيله، وإن غدا لأحدهم سعيٌ في الفساد واضحٌ وبان، وغوى به محاربة الحق وخان قوبل بما أمر الله تعالى به في كتابه حيث يقول: {إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً أن يقتلوا أو يصلبوا أو تقطع أيديهم وأرجلهم من خلافٍ أو ينفوا من الأرض ذلك لهم خزيٌ في الدنيا ولهم في الآخرة عذابٌ عظيم}.
وأمره باختيار المرتب للعرض والعطاء، والنفقة في الأولياء، من ذوي المعرفة والبصيرة، والمشهورين في العفة بتساوي العلانية والسريرة، وممن تحلى بالأمانة جيده، واعتضد بطرفيه في الرشاد تليده، وكان بما يسند إليه قيماً، وفي مقر الكفاية ثاوياً مخيماً. وأن يتقدم إليه بضبط حلى الرجال وشيات الخيول، وأن يقصد في كل وقت من تجديد العرض ما يشهد بالاحتياط السابغ الأهداب والذيول، فإذا وضح وجه الإطلاق، وسلم مال الاستحقاق، كانت التفرقة على قدر المنازل في التقديم والتأخير وبحسب الجرائد التي تدل على الصغير من ذلك والكبير، ومتى طرق أحدهم ما هو محتومٌ على خلقه، أعاد على بيت المال من رزقه بقدر قسطه وحقه. وأن يلزمهم إحضار جياد الخيول وخيار الشكك، ويأخذهم من ذلك بأوضح ما نهج المرء الطريق فيه وسلك، فإن أخل أحدهم بما يلزمه البروز فيه يوم العرض، أو قصر في القيام بالواجب عليه الفرض، حاسبه بذلك من الثبات باسمه والمطلق برسمه، تنبيهاً له على تلافي الفارط، وتبصيراً لغيره في البعد، عن مقام المخطيء الغالط، إذا كان في قوتهم وكمال عدتهم إرهابٌ للأعداء والأضداد، وإرهافٌ للبصائر فيما يؤدي إلى المصالح الوافية الأعداد والإمداد، قال الله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم}.
وأمره باختيار عمال الخراج، والضياع، والأعشار، والجهبذة، والصدقات، والجوالي، وأن يكونوا محتضنين من الأمانة والكفاية بما يقع الاشتراك في علمه، ومتقمصين من ملابس العفة والدراية ما تحمد العواقب في ضمنه، ومتميزين بما يغنيهم عن الأفكار بنتائج الاتعاظ والاعتبار ويغريهم بالاستمرار على السنن المنجي لهم من مواقف التنصل والاعتذار، وأن يأمر عمال الخراج بجباية الأموال، على أجمل الوجوه والأحوال، سالكين في ذلك جدداً وسطاً، يحمي من مقام من ضعف في الاستخراج أوسطا. وأن يتقدم إلى الناظرين في الضياع بتوفية العمارة حقها والزراعة حدها، والتوفير من حفظ الغلات الحاصلة على ما يقتفى فيه أرشد المذاهب وأسدها، متحرزين من أمرٍ ينبسون فيه إليه العجز والخيانة، فكلٌ من الحالين مجزٍ في وضوح أدلة الفساد ومخزٍ. وغلى الجهابذة بقصد الصحة في القبض والتقبيض، وحفظ النقد من التدليس والتلبيس، أداءً للأمانة في ذلك، واهتداءٍ فيع إلى أقوم المسالك. وغلى سعاة الصدقات بأخذ الفرائض من مواشي المسلمين السائمة دون العاملة، والجري في ذلك على السنة الكاسبة للمحمدة الوافية الكاملة، متجنبين من أخذ فحل الإبل وأكولة الراعي، وعقائل الأموال المحظورة على سائر الأسباب والدواعي، فإذا استوفيت على المحدود من حقها، أخرجت في المنصوص عليه من وجوهها وسبلها. وإلى جباة جماجم أهل الذمة بأخذ الجزية منهم في كل سنة، على قدر ذات أيديهم في الضيق والسعة، وبحسب العادة المألوفة المتبعة، ممتنعين من مطالبة النسوان، ومن لم يبلغ الحلم من الرجال ومن علت سنه عن الاكتساب وتبتل من الرهبان ومن غدا فقره واضح الدليل والبرهان، وفاءً بالعهد المسؤول وتلقياً لأمر الله تعالى بالقبول حيث يقول: {وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولاً}.
وأمره أن يرد أمر المظالم وأسواق الرقيق ودور الضرب والطرز والحسبة إلى من عضد بالظلف الورع، وانتظم له شمل الهدى واجتمع، فكان ذا معرفةٍ بما يحرم ويحل، وبصيرةٍ يتفيأ بها من عوارض الشبه ويستظل، وأن يكون النظر في ذلك مضاهياً للحكم ملائماً، ولن يقوم به إلا من لا يرى عاذلاً له في فعله لائماً، وأن يتقدم إلى من يلي المظالم بتسهيل الإذن للخصوم في الدخول عليه، وتمكين كلٍ منهم من استيفاء الحجة بين يديه، والتوصل إلى فصل ما بينهم بحسب ما يقود الحق إليه، وأن يقصد فيما وقع الخلف معهم فيه، الكشف الذي يقوم به ويستوفيه، فإن وضح له الحق أنفذه وقطع به، وإلا ردهم إلى مجالس القضاء لإمضاء ذلك على مقتضى الشرع وموجبه، وإلى المرتبين في أسواق الرقيق بالتحفظ فيما يبتاع ويباع، وأن يستعمل في ذلك الاقتفاء للسنن الجميل والاتباع: ليؤمن اختلاط الحر بالعبد، وتحرس الأنساب من القدح والفروج من الغضب، في ضمن حفظ الأموال، والمنع من مزج الحرام بالحلال. وإلى ولاة العيار بتصفية عين الدرهم والدينار من الغش والإدغال، وصون السكك من تداول الأيدي الغريبة لها بحالٍ من الأحوال، متحذرين من الاغترار بما ربما وضح الفساد فيه عند الاعتبار، ومانعين التجار المخصوصين بالإيراد، من كل قولٍ مخالفٍ للإيثار في الصحة والمراد، ومعتمدين إجراء الأمر فيما يطبع على القانون بمدينة السلام، من غير خلافٍ لمستقر القاعدة في ذلك ومتسق النظام، وأن يثبت ذكر أمير المؤمنين، وولي عهده في المسلمين، على ما يضرب من الصنفين معاً، والمسارعة في ذلك إلى أفضل ما بدر إليه المرء وسعى. وإلى المستخدمين في الطرز بملاحظة أحوال المناسج والإشراف عليها، وأخذ الصناع بالتجويد على العادة التي يجب الانتهاء إليها، وإثبات اسم أمير المؤمنين على ما ينسج من الكسا والفروش والأعلام والبنود، جرياً في ذلك على السنن المرضي والمنهاج المحمود. وإلى من يراعي الحسبة الشريفة بالكشف عن أحوال العوام في الأسواق، والانتهاء في ذلك إلى ما ينتهي به شمل الصلاح إلى الانتظام والاتساق، وأن يتقدم إليهم بما يجب من تعبير ما يختص بهم من المكاييل والموازين، وحملها على قانون الصحة الواضحة الدلائل والبراهين، وأن يقصد تبصيرهم مواضع الحظ في الاستقامة، ويحذرهم مواقع الانتقام الذي لا تفيد فيه أسباب الاستفصاح والاستقالة، فإن عرف من أحدٍ منهم إقداماً على إدغالٍ فيما يزن أو يكيل، قوبل من التأديب بما هو الطريق إلى ارتداعه والسبيل قال الله تعالى: {ويلٌ للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون}.
وأمره أن يعرف قدر النعمة التي ضفت عليه برودها، وحلت جيده عقودها، وزفت منه إلى أوفى أكفائها، وحفت بجزيل القسم من جميع أكنافها وأرجائها، وأن يقابلها بإخلاصٍ في الطاعة يساوي فيه بين ما يبدي ويسر وسعيٍ في الخدمة يوفي على كل مجازٍ ومبر، ويبدأ أمام ما يتوخاه بأخذ البيعة لأمير المؤمنين وولي عهده على نفسه وولده، وكافة الاجناد والرعايا في بلده، عن نية صفت من الكدر والقذى، ووفت للتوفيق بما ضمنت من خذلان البغي ونصرة الهدى، ويتبع ذلك بالحقوق في كل خدمة ترضي، والوقوف عند الأوامر الإمامية في كل ما يؤدي إلى الوفاق ويفضي، وأن يحمل إلى حضرة أمير المؤمنين من الفيء والغنائم ما أوجبه الله تعالى وفرضه، من غير تأخير لما يجب تقديمه من ذلك ولا تقصير منه فيما يقتضي التلافي والاستدراك ليأمر أمير المؤمنين بصرفه في سبيله المشار إليها، ووجوهه المنصوص عليها، قال الله تعالى: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
ثم إن أمير المؤمنين آثر أن يضاعف له من الإحسان، ما يقتضيه مقامه لديه من وجيه الرتبة والمكان، وشرفه بما يرفل من حلاه في حلل الجمال، وتكفل له علاه ببلوغ منتهى الآمال، وبوأه بما أولاه محلاً تقصر عن الوصول إليه الأقدام، وتعجز عن حل عراه الأيام، ولقبه بكذا وأذن له في تكنيته عن حضرته، وتأهيله من ذلك لما يتجاوز قدر أمنيته إنافةً به على من هو في مجالسته من الأقران طالع، وإضافةً للنعمة في ذاك إلى ما اقترن بها فيما هو لشمل الفخر عند جامع، وأنفذ لواءً يلوي به إلى الطاعة أبي الأعناق، ويحوي به من العز ما أنواره وافية الإشراق.
فتلق يا فلان هذه الصنيعة الغراء، والمنحة التي أكسبت زنادك الإيراء، بالاستبشار التام، والاعتراف فيها بسابغ الطول والإنعام، وأشع ذكر ذلك عند كل أحد، وانته في الإبانة عنه إلى أبعد أمد، واعتمد مكاتبة حضرة أمير المؤمنين متسمياً، ومن عداه متلقباً متكنياً وتوفر على شكرٍ تستدر به صوب المزيد، وتستحق به إلحاق الطريف من الإحسان بالتليد، والله تعالى يقول: {لئن شكرتم لأزيدنكم}.
هذا عهد أمير المؤمنين إليك، والحجة لك وعليك، قد أوضح لك فيه الصواب، وأذل به الجوامح الصعاب، وحباك منه بموهبة كفيلةٍ بخيري البدء والمعاد، وفيةٍ فيها المنى بسابق الضمان والميعاد، وضمنه من مواعظه ما هدى به إلى كل ما الجني ثمره، وغدا محظياً بما تروق أوضاحه في المجد وغرره، ولم يألك فيه تجملاً يكسبك الفخر النامي، ويجعل ذكرك زينة المحفل والنادي، وتقديماً ينبيء عما خصصت به من المنح المشرقة اللآلي، وإكراماً يبقى صيته على تقضي الأيام والليالي، وتبصيراً يقي من فلتات القول والعمل، ويرتقي المستضيء بأنواره إلى ذرى الأمن من دواعي العثار والزلل، فأصغ إلى ما حواه، إصغاء الفائز بأوفى الحظ، وتدبر فحواه، الناطق بفضل الحث على الهدى والحض، وكن لأوامر أمير المؤمنين فيه محتذياً، ومن تجاوز محدوده في مطاويه محتمياً، وبمواعظه الصادقة معتبراً، وفي العمل بما قارن الحق مستبصراً، تفز بالغنم الأكبر، وبالسلامة في المورد والمصدر، وإياك واعتماد ما تذم فيه مكاسبك، فإن لك بين يدي الله تعالى موقفاً يناقشك فيه ويحاسبك. واعلم أن أمير المؤمنين قد قلدك جسيماً، وخولك جزيلاً عظيماً، فلا تنس نصيبك من الله تعالى غدا، ولا تجعل لسلطان الهوى المضل عليك يدا، وإن خفي عليك الصواب في بعض ما أنت بصدده، أو اعترض فيه من الشبه ما يحول بينك وبين طريق الرشاد وجدده، فطالع حضرة أمير المؤمنين به، واستنجد الله في ذلك بأسد رأيٍ وأصوبه، يبدلك من الشك يقينا، ويبدلك ما يغدو لكل خير ضمينا، إن شاء الله تعالى.
الطريقة الثانية طريقة محققي المتأخرين ممن جرى على هذا المذهب: كالشيخ شهاب الدين محمود الحلبي، والمقر الشهابي بن فضل الله، ومن والاهم، وهي أن يأتي في أثناء العهد بخطبة أو تحميدٍ على عادة المكاتبات، وأن يذكر بعد صدر العهد حميد أوصاف المعهود إليه، ويطنب فيها ويثني عليه بما يليق بمقامه. قال في التعريف: على نحو ما تقدم في عهود الخلفاء عن الخلفاء.
قال في التثقيف: وصورته أن يكتب: هذا ما عهد به عبد الله ووليه أمير المؤمنين المتوكل على الله مثلاً أبو فلان فلان بن فلان، غلى السيد الأجل الملك العالم العادل المؤيد المظفر المنصور المجاهد ويذكر اللقب هنا، مثل الناصر أو الكامل أو غيره فلان الدنيا والدين، فلان، ابن السلطان السعيد الشهيد الملك الفلاني خلد الله تعالى ملكه.
أما بعد فأن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويصلي على ابن عمه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ويكمل الخطبة بما أمكنه. ثم يقال: عهد إليه وقلده جميع ما هو مقلده من مصالح الأمة وصلاح الخلق، بعد أن استخار الله تعالى في ذلك، ومكث مدةً يتدبر هذا الأمر ويروي فكره فيه وخاطره، ويستشير أهل الرأي والنظر، فلم ير أوفق منه لأمور الأمة ومصالح الدنيا والدين. ومن هذا وشبهه. ثم يقال وإن المعهود له قبل ذلك منه ويأتي فيه بما يليق من محاسن العبارة وأجناس الكلام.
قلت: وقد يؤتى بعد أما بعد بخطبة، مثل أن يقال: أما بعد فالحمد لله ونحو ذلك، ويكمل الخطبة بما يليق بالمقام. ثم قد يقتصر على تحميدة واحدة، وقد يكرره إلى ثلاث، وإن شاء بلغ به سبعاً. فقد قال في التعريف: في الكلام على عهود الملوك للملوك: إنه كلما كثر التحميد، كان أدل على عظم النعمة. وقد يقال في آخره: والاعتماد على الخط الفلاني بلقب الخلافة أعلاه حجةً بمقتضاه أو الخط الفلاني أعلاه حجةً فيه ونحو ذلك.
وعلى هذه الطريقة كتب الشيخ شهاب الدين محمود الحلبي عهد الملك العادل كتبغا عن الخليفة الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، ابن الإمام الذي استحضره الملك الظاهر بيبرس من بغداد وبايعه، وهذه نسخته: هذا عهدٌ شريفٌ في كتابٍ مرقومٍ يشهده المقربون، ويفوضه آل رسول الله صلى الله عليه وسلم الأئمة الأقربون. من عبد الله ووليه الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين، وسليل الخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، رضوان الله عليهم أجمعين، إلى السلطان الملك العادل زين الدنيا والدين كتبغا المنصوري أعز الله سلطانه.
أما بعد فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي جعل له منك سلطاناً نصيراً، وأقام له بملكك على ما ولاه من أمور خلقه عضداً وظهيراً، وآتاك بما نهضت به من طاعته نعماً وملكاً كبيراً وخولك بإقامة ما وراء سريره من مصالح الإسلام بكل أرضٍ منبراً وسريراً، وجاء بك لإعانته على ما استخلفه الله فيه من أمور عباده على قدرٍ وكان ربك قديراً، وجمع بك الأمة بعد أن كاد يزيغ قلوب فريقٍ منهم، وعضدك لإقامة إمامته بأولياء دولتك الذين رضي الله عنهم، وخصك بأنصار دينه الذين نهضوا بما أمروا به من طاعتك وهم نازهون وأظهرك على الذين ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون، واصطفاك لإقامة الدين وقد اختلفت الأهواء في تلك المدة، ولم بك شعث الأمة بعد الاضطراب فكان موقفك ثم موقف الصديق يم الردة.
ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادة حاكم بأمره، مستنزلٍ لك بالإخلاص ملائكة تأييده وأعوان نصره، مسترهفٍ بها سيف عزمك على من جاهر بشركه وحاربه بكفره، معتصمٍ بتوفيقه في تفويضه إليك أمر سره الذي استودعه في الأمة وجهره، ويصلي على سيدنا محمد رسول الله الذي استخرجه الله من عنصره وذويه، وشرف به قدر جده بقوله فيه: عم الرجل صنو أبيه وأسر إليه بأن هذا الأمر فتح به ويختم ببنيه، وعلى آله وصحبه والخلفاء الراشدين من بعده، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، وجاهدوا أئمة الكفر الذين لا أيمان لهم والذين هم بربهم يعدلون، وسلم تسليماً كثيراً.
وإن أمير المؤمنين لما آتاه الله من سر النبوة، واستودعه من أحكام الإمامة الموروثة عن شرف الأبوة، واختصه من الطاعة المفروضة على الأمم، وفرض عليه من النظر في الأخص من مصالح المسلمين والأعم، وعصم آراءه ببركة آبائه من الخلل، وجعل سهم اجتهاده هو المصيب أبداً في القول والعمل، وكان السلطان فلان هو الذي جمع الله به كلمة الإسلام وقد كادت، وثبت به الأرض وقد اضطربت بالأهواء ومادت، ورفع به منار الدين بعد أن شمخ الكفر بأنفه، وألف به شمل المسلمين وقد طمح العدو إلى افتراقه وطمع في خلفه وحفظ به في الجهاد حكم الكتاب الذي {لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه} وحمى به الممالك الإسلامية فما شام الكفر منها برق ثغرٍ إلا رمي من وابله بوابل، ولا أطلق عنان طرفه إلى الأطراف إلا وقع من سطوات جنوده في كفة حابل، ولا اطمأنوا في بلادهم إلا أتتهم سراياه من حيث لم يرتقبوا، ولا أنهم مانعتهم حصونهم من الله إلا وأتاهم بجنوده من حيث لم يحتسبوا، وألف جيوش الإسلام فأصبحت على الأعداء بيمنه يداً واحدة، وقام بأمور الأمة فأمست عيون الرعايا باستيقاظ سيوفه في مهاد الأمن راقدة، وأقام منار الشريعة المطهرة فهي حاكمةٌ له وعليه، نافذٌ أمرها على أمره فيما وضع الله مقاليده في يده، ونصره الله في مواطن كثيرة، وأعانه على من أضمر له الشقاق والصلاة وإنها لكبيرة، وأظهره بمن بغى عليه في يومه بعد حلمه عنه في أمسه، وأيده على الذين خانوا عهده ويد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه، وتعين لملك الإسلام فلم يك يصلح إلا له، واختاره الله لذلك فبلغ به الدين آماله، وضعضع بملكه عمود الشرك وأماله، وأعاد بسلطانه على الممالك بهجتها وعلى الملك رونقه وجلاله، وأخدمه النصر فيما أضمر له أحدٌ سوءاً إلا وزلزل أقدامه وعجل وباله، ورده إليه وقد جعل من الرعب قيوده ومن الذعر أغلاله، وأوطأ جواده هام أعدائه وإن أنف أن تكون نعاله.
عهد إليه حينئذٍ مولانا الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين في كل ما وراء خلافته المقدسة، وجميع ما اقتضته أحكام إمامته التي هي على التقوى مؤسسة: من إقامة شعار الملك الذي جمع الله الإسلام عليه، وظهور أبهة السلطنة التي ألقى الله وأمير المؤمنين مقاليدها إليه، ومن الحكم الخاص والعام، في سائر ممالك الإسلام وفي كل ما تقتضيه أحكام شريعة سيدنا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي خزائن الأموال وإنفاقها، وملك الرقاب وإعتاقها، واعتقال الجناة وإطلاقها، وفي كل ما هو في يد الملة الإسلامية أو يفتحه الله بيده عليها، وفي جميع ما هو من ضوال الممالك الإسلامية التي سيرجعها الله بجهاده إليها، وفي تقليد الملوك والوزراء، وتقدمة الجيوش وتأمير الأمراء، وفي الأمصار يقر بها من شاء من الجنود، ويبعث إليها ومنها ما شاء من البعوث والحشود، ويحكم في أمرها بما أمر الله من الذب عن حريمها، ويتحكم بالعدل الذي رسم الله به لظاعنها ومقيمها، وفي تقديم حديثها واستحداث قديمها، وتشييد ثغورها، وإمضاء ما عرفه الله به وجهله سواه من أمورها، وإقرار من شاء من حكامها، وإمضاء ما شاء من إتقان القواعد بالعدل وإحكامها، وفي إقطاع خواصها، واقتلاع ما اقتضته المصلحة من عمائرها وعمارة ما شاء من قلاعها، وفي إقامة الجهاد بنفسه الشريفة وكتائبه، ولقاء الأعداء كيف شاء من تسيير سراياه وبعث مواكبه، وفي مضايقة العدو وحصاره، ومصابرته وإنظاره، وغزوه كيف أراد الله في أطراف بلاده وفي عقر داره وفي المن والفداء والإرقاق، وضرب الهدن التي تسألها العدا وهي خاضعة الأعناق، وأخذ مجاوري العدو المخذول بما أراه الله من النكاية إذا أمكن من نواصيهم، وحكم عفوه في طائعهم وبأسه في عاصيهم، وإنزال الذين ظاهروهم من أهل الكتاب من صياصيهم. وفي الجيوش التي ألف الأعداء فتكات ألوفها، وعرفوا أن أرواحهم ودائع سيوفها، وصبحتهم سرايا رعبها المبثوثة إليهم، وتركهم خوفها كأنهم خشب مسندةٌ يحسبون كل صيحةٍ عليهم وهم الذين ضاقت بمواكبهم إلى العدا سعة الفجاج، وقاسمت رماحهم الأعداء شر قسمة ففي أيديهم كعوبها وفي صدور أولئك الزجاج، وأذهبت عن الثغور الإسلامية رجس الكفر وطهرت من ذلك ما جاور العذب الفرات والملح الأجاج، وعرفوا في الحروب بتسرع الإقدام وثبات الأقدام، وأدخر الله لأيامه الشريفة أن تردنها بهم دار السلام إلى ملك الإسلام: فيدر عليهم ما شاء من إنعامه الذي يؤكد طاعتهم، ويجدد استطاعتهم، ويضاعف أعدادهم، ويجعل بصفاء النيات ملائكة الله أمدادهم، ويحملهم على الثبات إذا لقوا الذين كفروا زحفاً، ويجعلهم في التعاضد على اللقاء كالبنيان المرصوص فإن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً. وفي أمر الشرع وتولية قضاته وحكامه، وإمضاء ما فرض الله عليه وعلى الأمة من الوقوف عند حدود وا مع أحكامه، فإن لواء الله الممدود في أرضه، وحبله المتين الذي لانقض لإبرامه ولا إبرام لنقضه، وسنن نبيه الذي لاحظ عند الله في الإسلام لغير متمسك بسنته وفرضه، وهو أعز الله سلطانه سيف الله المشهور على الذين غدوا وهم من أحكام الله مارقون، ويده المبسوطة في إمضاء الحكم بما أنزل الله: {ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون}. وفي مصالح الحرمين الشريفين وثالثهما الذي تشد أيضاً إليه الرحال. وإقامة سبيل الحجيج الذين يفدون على الله بما منحهم من بره وعنايته في الإقامة والإرتحال. وفي عمارة البيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه يسبح له فيها بالغدو والآصال رجال وفي إقامة الخطب على المنابر، واقترن اسمه الشريف مع اسمه بين كل باد وحاضر، والاقتصار على هذه التثنية في أقطار الأرض فإن القائل بالثليث كافر، وفي سائر ما تشمله الممالك الإسلامية ومن تشمل عليه شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، وبراً وبحراً، وشاماً ومصراً، وحجازاً ويمناً، ومن يستقر بذلك إقامةً وظغناً. وفوض إليه ذلك جميعه وكل ما هو من لوازم خلافته لله في أرضه، ما ذكر وما لم يذكر تفويضاً لازماً، وإمضاءً جازماً، وعهداً محكماً، وعقداً في مصالح ملك الإسلام محكماً، وتقليداً مؤبداً، وتقريراً عن كر الجديدين مجدداً، وأثبت ذلك وهو الحاكم حقيقةً بما عمله من استحقاقه والحاكم بعلمه، وأشهد الله وملائكته على نفوذ حكمه بذلك: {والله يحكم لا معقب لحكمه}. وذلك لما صح عنده من نهوض ملكه بأعباء ما حمله الله من الخلافة، وأدائه الأمانة عنه فيما كتب الله عليه من الرحمة اللازمة والرافة، واستقلاله بأمور الجهاد الذي أقام الله به الدين، واختصاصه وجنوده بعموم ما أمر الله به الأمة في قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين}. وأنه في الجهاد سهمه المصيب وله به أجر الرامي المسدد، وسيفه الذي جرده على أعداء الدين وله من فتكاته حظ المرهف المجرد، وظل الله في الأرض الذي مده بيمن يمينه، وآية نصره الذي اختاره الله لمصالح دنياه وصلاح دينه، الناهض بفرض الجهاد وهو في مستقر خلافته وادع، والراكض عنه بخيله وخياله إلى العدو الذي ليس لفتكات سيوفه رادع، والمؤدي عنه فرض النفير في سبيل الله كلما تعين، والمنتقم له من أهل الشقاق الذين يجادلون في الحق بعدما تبين، والقائم بأمر الفتوح التي ترد بيع الكفر مساجد يذكر فيها اسم الله واسمه ويرفع على منابرها شعاره الشريف ورسمه، وتمثل له بإقامة دعوته صورة الفتح كأنه ينظر إليها، والناظر عنه في عموم مصالح الإسلام وخصوصها تعظيماً لقدره، وترفيهاً لسره، وتفخيماً لشرفه، وتكريماً لجلالة بيته النبوي وسلفه، وقياماً له بما عهد إليه، ووفاءً من أمور الدين والدنيا بما وضع مقاليده في يديه. لا معقب لحكمه. وذلك لما صح عنده من نهوض ملكه بأعباء ما حمله الله من الخلافة، وأدائه الأمانة عنه فيما كتب الله عليه من الرحمة اللازمة والرافة، واستقلاله بأمور الجهاد الذي أقام الله به الدين، واختصاصه وجنوده بعموم ما أمر الله به الأمة في قوله تعالى: {قاتلوهم يعذبهم الله بأيديكم ويخزهم وينصركم عليهم ويشف صدور قومٍ مؤمنين}. وأنه في الجهاد سهمه المصيب وله به أجر الرامي المسدد، وسيفه الذي جرده على أعداء الدين وله من فتكاته حظ المرهف المجرد، وظل الله في الأرض الذي مده بيمن يمينه، وآية نصره الذي اختاره الله لمصالح دنياه وصلاح دينه، الناهض بفرض الجهاد وهو في مستقر خلافته وادع، والراكض عنه بخيله وخياله إلى العدو الذي ليس لفتكات سيوفه رادع، والمؤدي عنه فرض النفير في سبيل الله كلما تعين، والمنتقم له من أهل الشقاق الذين يجادلون في الحق بعدما تبين، والقائم بأمر الفتوح التي ترد بيع الكفر مساجد يذكر فيها اسم الله واسمه ويرفع على منابرها شعاره الشريف ورسمه، وتمثل له بإقامة دعوته صورة الفتح كأنه ينظر إليها، والناظر عنه في عموم مصالح الإسلام وخصوصها تعظيماً لقدره، وترفيهاً لسره، وتفخيماً لشرفه، وتكريماً لجلالة بيته النبوي وسلفه، وقياماً له بما عهد إليه، ووفاءً من أمور الدين والدنيا بما وضع مقاليده في يديه.
وليدل على عظم سيرته بكرم سيره، وينبه على كمال سعادته إذ قد كفي به في أمور خلق الله تعالى والسعيد من كفي بغيره، لم يجعل أمير المؤمنين على يده يداً في ذلك، ولا فسح لأحد غيره في أقطار الأرض أن يدعى بملك ولا مالك، بل بسط حكمه وتحكمه في شرق الأرض وغربها وما بين ذلك، وقد فرض طاعته على سائر الأمم، وحكم بوجوبها على الخاص والعام ومن ينقض حكم الحاكم إذا حكم، وهو يعلم أن الله تعالى قد أودع مولانا السلطان سراً يستضاء بأنواره، ويهتدى في مصالح الملك والممالك بمناره، فجعل له أن يفعل في ذلك كل ما هدى الله قلبه إليه، وبعثه بالتأييد الإلهي عليه، واكتفى عن الوصايا بأن الله تعالى تكفل له بالتأييد، وخصه من كل خير بالمزيد، وجعل خلقه التقوى وكل خير فرعٌ عليها، ونور بصيرته بالهدى فما يدل على حسنة من أمور الدنيا والآخرة إلا وهو السابق إليها، والله تعالى يجعل أيامه مؤرخةً بالفتوح، ويؤيده بالملائكة والروح، على من يدعي الأب والابن والروح، ويجعل أسباب النصر معقودةً بسببه، والملك كلمةً باقيةً في عقبه.
ويشهد بهذا العهد الشريف مع من شهده من الملائكة المقربين، كل من حضر تلاوته من سائر الناس أجمعين: لتكون حجة الله على خلقه أسبق، وعهد أمير المؤمنين بثبوته أوثق، وطاعة سلطان الأرض قد زادها الله على خلقه بذلك توكيداً، وشهد الله وملائكته على الخلق بذلك وكفى بالله شهيداً. والاعتماد على الخط الحاكمي أعلاه حجةٌ به، إن شاء الله تعالى.
وعلى نحو ذلك كتب الشيخ شهاب الدين محمودٌ الحلبي عهد الملك المنصور حسام الدين لاجين عن الخليفة الحاكم بأمر الله بن أبي الربيع سليمان المتقدم ذكره. وهذه نسخته: هذا عهدٌ شريفٌ تشهد به الأملاك لأشرف الملوك، من عبد الله ووليه الإمام الحاكم بأمر الله أمير المؤمنين، للسلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين، أبي الفتح لاجين المنصوري، أعز الله سلطانه.
أما بعد، فالحمد لله مؤتي الملك من يشاء من عباده، ومعطي النصر من يجاهد فيه حق جهاده ومرهف حسام انتقامه على من جاهر بعناده، ومفوض أمر هذا الخلق إلى من أودعه سر رأفته في محبته ومراد نقمته في مراده، وجامع كلمة الإيمان بمن اجتباه لإقامة دينه وارتضاه لرفع عماده، ومقر الحق في يد من منع سيفه المجرد في سبيل الله أن يقر في أغماده، وجاعل ملك الإسلام من حقوق من إذا عد أهل الأرض على اجتماعهم كان هو المتعين على انفراده، الذي شرف أسرة ملك الإسلام باستيلاء حسام دينه عليها، وزلزل ممالك أعدائه بما بعث من سرايا رعبه إليها، وثبت به أركان الأرض التي ستحتوي ملكه في طرفيها، وضعضع بسلطانه قواعد ملوك الكفر فودعت ما كان مودعاً لأيامه من ممالك الإسلام في يديها وأقامه وليه بأمره فلم يختلف عله اثنان من خلقه، وقلده أمر بريته لما أقدره عليه من النهوض بحقهم وحقه، وأظهره على من نصب له الغوائل {والله غالبٌ على أمره} ونصره في مواطن كثيرةٍ لما قدره في القدم من رفعة شانه وإعتلاء قدره، وإن أعرض عن طلبه بجيوش الرعب محصوراً، وكفاه بنصره على الأعداء التوغل في سفك الدماء فلم يسرف في القتل إنه كان منصوراً، ونقل إليه الملك بسيفه والدماء مصونة، وحكمه فيما كان بيد غيره من الأرض والبلاد آمنةٌ والفتن مأمونة، فكان أمر من ذهب سحابة صيف، أو جلسة ضيف، لم تحل له روعةٌ في القلوب، ولم يذعرها وقد ألبسه الله ما نزع عن سواه سالبٌ ولا مسلوب، إجراءً لهذه الأمة على عوائد فضله العميم، واختصاصاً بما آتاه من ملكه {والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسعٌ عليم}.
يحمده أمير المؤمنين على ما منح في أيامه الدين من اعتضاده بحسامه، والاعتماد في ملك المسلمين على من يجعل جباه ملوك الشرك تحت أقدامه، والاعتداد بمساعي من حصونه في الجهاد ظهور جياده وقصور أطراف حسامه.
ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة حاكم بما أراه، حامدٍ له في ملك الإسلام على تيسر ما وطده ورف ما عراه، معتصم به في كل ما أثبته بالحق من قواعد الدين في جهاد أعداء الدين عن سيره في ذلك وسراه، وأن محمداً عبده ورسوله الذي جعله من عصبته الشريفة وعصبته، وشرفه بوراثة خلافته في أمته ورفع قدر رتبته، وقصره على إقامة من يرهب العدا بنشر دعوته في الآفاق مع مواقع رغبته، ويسأله أن يصلي عليه صلاةً تفتح له في الدنيا إلى العصمة طريقاً، وتجعله في الأخرى معه ومع الذين أنعم الله عليهم من آبائه الشهداء والصالحين {وحسن أولئك رفيقا} وسلم تسليماً كثيراً.
وإن أمير المؤمنين لما اختصه الله به من البر المودع في قلبه، والنور الذي أصبح فيه على بينة من ربه، والتأييد المنتقل إليه عمن شرف بقربه، والنص الذي أسره رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جده العباس من بقاء هذا الأمر في ورثته دون أقاربه وصحبه، ولم يزل يرغب إلى سبحانه ويستخيره في إقامة من ينهض في ملك الإسلام حق النهوض، ويفوض إليه الأمانة إلى من يرى أداء الأمانة فيهم من آكد الفروض، ومن إذ قال النفير يا خيل الله اركبي سابقت خيله خياله، وجازت عزائمه نصاله، وأخذ عدو الدين من مأمنه، وغالب سيفه الأجل على انتزاع روحه من بدنه، وقاتل لتكون كلمة الله هي العليا، وجاهد لإقامة منار الإسلام لا للتعرض إلى عرض الدنيا، وقدمت له ملوك الدنيا حصونها، وبذلت له مع الطاعة مصونها، وأقيم له بكل قطرٍ منبرٌ وسرير، وجمع ملوك العدا في رق طاعته وهو على جمعهم إذ يشاء قدير، ومن يقيم العدل على ما شرع، والشرع على ما أخذ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمع، ويميت البدع بإحياء السنن، ويعلم أن الله جعل لخلقه على لسان نبيه محمدٍ صلى الله عليه وسلم سنناً ولا يعدل بهم عن ذلك السنن.
ولما كان السلطان الملك المنصور حسام الدنيا والدين أبو الفتح لاجين المنصوري خلد الله سلطانه هو الذي جعل الله صلاح الأمة على يديه، واختاره لإقامة دينه فساق ملك الإسلام عنوةً إليه، وأنهضه بذلك وقد أمده بجنود نصره، وأنزل سكينته عليه وجمع قلوب أهل الإسلام على حبه، وفرق أعداء الدين خوف حربه، وجعل النصر حيث توجه من أشياخه وحزبه، وعضده لنصرة الإسلام بملائكة سمائه، وأقام به عمود الدين الذي بالسيف قام ولا غرور فإن الحسام من أسمائه، وأقبلت إليه طوائف جيوش الإسلام مذعنين، وأدى في كرامتهم حقوق طاعة الله الذي أيده بنصره وبالمؤمنين، وتلقاهم بشير كرامته ونعمه وقال: ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين، فطارت مخلقات البشائر بملكه في الآفاق، وأغص العدا سلطانه فما توهموا في أمر الإسلام الاختلاف حتى تحققوا بحمد الله ويمن أيامه الوفاق، واختالت المنابر الإسلامية بذكر أمير المؤمنين وذكره، وأعلنت الأمة المحمدية بحمد الله الذي أقربه الحق في مركزه ورد به شارد الملك إلى وكره، وتحقق أمير المؤمنين أنه المكنون في طويته والمستكن في صدره، والقائم في عمارة بيته النبوي وسلامة مقام سلمانه وعماره، فعهد إليه حينئذ في كل ما تقتضيه أحكام إمامته في أمة نبيه، وجعله في التصرف المطلق عنه قائماً مقام وصيه في الملة ووليه، وقلده أمر ملك الإسلام تقليداً عاماً، وفوض إليه حكم السلطنة الشريفة تفويضاً تاماً، وألبسه من ذلك ما خلعه عن سواه، ونشر عليه لواء الملك الذي زوى ظله عن غيره وطواه، وحكمه في كل ما تقتضيه خلافته المقدسة، وتمضيه إمامته التي هي على التقوى مؤسسة: من إقامة منار الإسلام، والحكم العام في أمة محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي تقليد الملوك والوزراء، وتقدمة الجيوش وتأمير الأمراء، وفي تجهيز العساكر والسرايا، وإرسال الطلائع والرءايا، وتجريد الجنود الذين ما ندبهم إلى الأعداء إلا أبوا بالنهاب والسبايا، وفي غزو العدو كيف أراه الله إن بنفسه أو جنده، وفي استرسال النصر بالثبات والصبر فإن الله يجزي الصابرين وما النصر إلا من عنده، وفي محاصرة العدو ومصابرته، وإنظاره ومناظرته، وإنزالهم على ما شرع الله فيهم من الأحكام، والتوخي في ذلك ما حكم به سعد بن معاذ في زمن الرسول عليه أفضل الصلاة والسلام، وفي ضرب الهدن وإمضائها، والوفاء بالعقود المشروعة إلى انتهاء مددها وانقضائها، وفي إرضاء السيوف ممن نكث ولم يتم عهده إلى مدته فإن إسخاط الكفر في إرضائها، وفي الأمصار يقر بها من شاء من الجنود، ويبعث إليها من البعوث والحشود، وفي سداد الثغور بالرجال الذين تفتر بهم عن شنب النصر، وتأمن بهم أعدادها من غوائل الحصر، وتوفير سهامها من سهام القوة التي ترمي بشرر كالقصر، وإمداد بحرها بالشواني المجربة المجددة، والسفن التي كأنها القصور الممهدة على الصروح الممردة، فلا تزال تدب إليهم من ذوات الأرجل عقاربها، وتخطف غربانهم الطائرة بأجنحة القلوع مخالبها، وفي تقدمة وتنفيذ السرايا التي لا تزال أسنتها إلى نحور الأعداء مقومة، وإنفاق ما يراه في مصالح الإسلام من القناطير المقنطرة من الذهب والفضة والخيل المسومة، وفي إعلاء منار الشرع الشريف والانقياد إليه والمسارعة إلى نفوذ حكمه فيما له وعليه، وتقوية يد حكامه على كل أمير ومأمور أقر الشرع في يده شيئاً أو انتزعه من يديه، وتفويض الحكم إلى كل من يتعين لذلك من أئمة الأمة، وإقامة الشرع الشريف على قواعده الأربعة فإن اتفاق العلماء حجةٌ واختلافهم رحمة، وفي مصالح الحرمين الشريفين وثالثهما الذي تشد الرحال أيضاً إليه، وفي إقامة سبل الحجيج الذين دعاهم الله فلبوه واستدعاهم فقدموا عليه، وفوض إليه كل ما هو من لوازم خلافته لله في أرضه: ما ذكر وما لم يذكر تفويضاً لازماً، وتقليداً جازماً، وعقداً محكماً، وعهداً في مصالح الإسلام والمسلمين محكماً، واكتفى من الوصايا بما جبل عليه خلقه الشريف من التقوى، وهدى نفسه النفيسة إليه من التمسك بالسند الأقوم والسبب الأقوى، فيما ينبه على حسنه إلا وهو أسبق إليها، ولا يدل على خلة وإلا فكره الشريف أسرع من فكر الدال عليها وقد وثق ببراءة الذمة من حق قوم أضحوا لفضل مثله راجين، وتحقق حلول النعمة على أمة أمسوا إليها لاجين لاجين، وقد استخار أمير المؤمنين الله في ذلك كثيراً ولجأ إلى الله في توفيقه وتوفيقه على الصواب مما يجده في الحكم بذلك هادياً ونصيراً، وسارع إلى التسليم بأمر الله تعالى فيما فوض إليه من أمور عباده إنه كان بعباده خبيراً بصيراً. وأشهد الله وملائكته ومن حضره من المؤمنين على نفسه بما تضمنه هذا العهد الكريم، وحكم على الأمة بمقتضاهولجأ إلى الله في توفيقه وتوفيقه على الصواب مما يجده في الحكم بذلك هادياً ونصيراً، وسارع إلى التسليم بأمر الله تعالى فيما فوض إليه من أمور عباده إنه كان بعباده خبيراً بصيراً. وأشهد الله وملائكته ومن حضره من المؤمنين على نفسه بما تضمنه هذا العهد الكريم، وحكم على الأمة بمقتضاه فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه إن الله سميع عليم. والخط الشريف الإمامي الحاكمي أعلاه، حجةٌ بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
وعلى قريب منه كتب القاضي شمس الدين إبراهيم ابن القيسراني عهد الملك الناصر محمد بن قلاوون عن الحاكم بأمر الله أحمد بن أبي الربيع سليمان.
وهذه نسخته: هذا عهدٌ يعمر بك للإسلام المعاهد، وينصر منك الاعتزام فتغنى عن الموالي والمعاضد، ويلقي إليك مقاليد الأمور: لتجتهد في مراضي الله وتجاهد، ويبعثك على العمل بالكتاب والسنة ليكونا شاهدين لك عند الله في أعظم المشاهد، فخذ كتاب أمير المؤمنين بقوة تبركاً بأخذ يحيى عليه السلام للكتاب، وحاسب نفسك محاسبةً تجد نفعها يوم يقوم الحساب، واعمل صالحاً فالذين آمنوا وعملوا الصالحات طوبى لهم وحسن مآبٍ.
من عبد الله ووليه الإمام الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد أمير المؤمنين: إلى السلطان الأجل العالم، العادل، المجاهد، المرابط، المظفر، الملك، الناصر، ناصر الدنيا والدين، سلطان الإسلام والمسلمين، سيد الملوك والسلاطين، فاتح الأمصار، مبيد الأرمن والفرنج والتتار، وارث الملك، سلطان العرب والعجم والترك، خادم الحرمين، صاحب القبلتين، أبي الفتح محمد قسيم أمير المؤمنين أعز الله سلطانه، ولد السلطان الشهيد الملك المنصور سيف الدين قلاوون، قدس الله روحه.
أما بعد فالحمد لله الذي أقام ناصر الإسلام وأهله بخير ناصر، وأحل في السلطنة المعظمة من استحقها بذاته الشريفة وشرف العناصر، ووضع الإصر بمن كثرت منه ومن سلفه الكريم على الرعايا الأواصر، وعقد لواء الملك لمن هو واحدٌ في الجود ألفٌ في الوغى ففي حاليه تعقد عليه الخناصر، وجمع كلمة الأمة بمتفرد في المعالي متوحد في المفاخر، متصفٍ بمناقب أربى بها على أربابها من الملوك الأوائل والأواخر، وأقرالنواظر والخواطر بمن أشرق عليهما نوره الباهر، وظهرت آثار وجوده على البواطن والظواهر، وأعاد شبيبة الأيام في اقتبال سر السرائر، وسارت بشائر مقدمه في الآفاق سير المثل وما ظنك بالمثل السائر، وفعلت مهابته في التمهيد والتشييد فعل القنا المتاجر، وشفت الصدور بوجود الاتفاق وعدم الشقاق بعد أن بلغت القلوب الحناجر، وأورث البلاد والعباد صفوة ذريةٍ ورثوا السيادة كابراً عن كابر، وسرى سره إذا ولد المولود منهم تهللت له الأرض واهتزت إليه المنابر.
والحمد لله الذي اجتبى سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم من أشرف بيتٍ وقبيلة، ومنح الأمة برسالته من خيري الدنيا والآخرة الوسيلة، وأوجب الشفاعة لمن سأل الله له أعلى درجة لا ينالها إلا رجلٌ واحدٌ وهي الوسيلة، وجعل شملهم بمبايعته ومتابعته في الهداية نظيماً وحض على ذلك بقوله تعالى: {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه ومن أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجراً عظيماً}. وبلغهم من السعادة غاية مطلوبهم، وأيده بنصره وبالمؤمنين وألف بين قلوبهم، وزان شريعته المطهرة بمحاسن أبهى منظراً ومخبراً من العقود، وفرض على المؤمنين أن يوفوا بالعهود وبالعقود، وأقدرهم على حمل الأمانة التي أشفقت السماوات والأرض والجبال من حملها، وأنزل في كتابه العزيز: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها}.
والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين من سلالة عم نبيه العباس، واصطفى بيته المبارك من خير أمةٍ أخرجت للناس، وقوى به جأش المسلمين وجيوش الموحدين على الملحدين، وآتاه بسيادة جده وسعادة جده ما لم يؤت أحداً من العالمين، وحفظ به للمؤمنين ذماماً، وجعله للمتقين إماماً، وخصه بمزيد من الشرفين: نسبه ومنصبه، وجعل مزية الرتبتين كلمةً باقيةً في عقبه، وصان به حوزة الدين صيانة العرين بالأسود، وصير الأيدي البيض مشكورةً لحاملي راياته السود.
يحمده أمير المؤمنين حمد من اختاره من السماء فاستخلفه في الأرض، وجعل إمرته على المؤمنين فرضاً لتقام به السنة والفرض، ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي كشف بمبعثه عن القلوب حجب الغي، وأشرقت أنوار نبوته فأضاء لها يوم دخوله المدينة كل شيء، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين منهم من أقامه في الإمامة مقامه وأشار إلى الاقتداء به من بعده، ومنهم من أعز الله به الإسلام في كل قطر مع قربه وبعده، ومنهم من كانت اليد الشريفة النبوية في بيعة الرضوان خيراً له من يده، ومنهم من أمر الله تعالى بالمباهلة بالأبناء والنفوس فباهل خاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم به وبزوجه وولده، وعلى بقية العشرة، الذين غدت بهم دعوة الحق مشتهرةً منتشرة، وعلى عميه أسد الله وأسد رسول الله عليه السلام، وجد الأئمة المهديين أمراء المؤمنين وخلفاء الإسلام، وسلم تسليماً كثيراً.
إن الله تعالى جعل سجية الأيام الشريفة الإمامية الحاكمية أدام الله إشراقها، وقسم بها بين الأولياء والأعداء آجالها وأرزاقها، رد الحقوق إلى ناصبها، وإعادتها إلى مستحقيها ولو تمادت الأيام على اغتصابها، وإقرارها عند من هو دون الورى أولى بها: ليحقق أن نسبه الشريف أظهر على أوامره دلائل الإعجاز، وحلى كلماتها بالإيجاز وهباتها بالإنجاز، وغن لله جعل الاسم الشريف الحاكمي في الحكم بأمره على خير مسمى، وقوى منه في تأييد كلمة الحق جناناً وعزما، ولم يخرج من أحكامه عن اتباع أمر الله قضيةً ولا حكما، وكنت أيها السيد، العالم العادل، السلطان، الملك، الناصر، ناصر الدنيا والدين، أبو الفتح محمد ابن السلطان الشهيد الملك المنصور، سيف الدين قلاوون قدس الله روحه أولى الأولياء بالملك الشريف: لما لسلفك من حقوق، وما أسلفوه من فضلٍ لا يحسن له التناسي ولا العقوق، ولما أوجب لك على العساكر الإسلامية سابق الأيمان، وصادق الإيمان: ولأنك جمعت في المجد بين طارفٍ وتالد، وفقت بزكي نفسٍ وأخٍ ووالد، وجلالة، ما ورثتها عن كلالة، وخلال، مالها بالسيادة إخلال، ومفاخر، تكاثر البحر الزاخر، ومآثر، أعجز وصفها الناظم والناثر، وكان ركابك العالي قد سار إلى الكرك المحروس، وقعدت عنك الأجسام وسافرت معك النفوس، ووثقت الخواطر بأنك إلى السلطة تعود، وأن الله تعالى يجدد لك صعوداً إلى مراتب السعود، وأقمت بها وذكرك في الآفاق سائر، والآمال مبشرة بأنك إلى كرسي مملكتك صائر.
فلما احتاج الملك الشريف في هذه المدة إلى ملك يسر سريره، وسلطانٍ تغدو باستقراره عيون الأنام والأيام قريرة: لما للمسلمين في ذلك من تيسير أوطار وتعمير أوطان، ولأنهم لا ينفذون في المصالح الإسلامية إلا بسلطان، لم يدر في الأذهان، ولا خطر لقاصٍ ولا دان، إلا أنك أحق الناس بالسلطنة الشريفة، وأولاهم برتبتها المنيفة، ولا ذكر أحدٌ إلا حقوق بيتك وفضلها ولا قال عنكم إلا بقول الله: {وكانوا أحق بها وبأهلها} لأن البلاد فتوحات سيوفكم، ورعاياها فيما هم فيه من الأمن والخير بمنزلة ضيوفكم، ولأن العساكر الإسلامية استرقهم ولاؤك، ووالوك لأنهم أرقاؤك، فلم يقل أحد: أنى له الملك علينا بل أقر كلٌ منهم باليد وقر بولايتك عينا، وأخلصوا في موالاتك العقائد، واستبشروا منك بمبارك الوجه ماجدٍ جائد، ولم يغب غائبٌ خليفته جيش أبيه وجده الصاعد، ورفعت الممالك يد الضراعة سائلةً وراغبة، وخطبتك لعقائلها ومعاقلها والخطباء على المنابر لك خاطبةً وبدعائك مخاطبة، وقصدت لذلك أبوابك التي لا تزال تقصد، ودعيت للعود المبارك وعود محمد للأمة المحمدية أحمد، وفعلت الجيوش المنصورة من طاعتك كل ما سر، وأربت في صدق النيات وبرها على كل من بر:
ولو ان مشتاقاً تكلف فوق ما ** في وسعه لسعى إليك المنبر!

فما ضر بمحمد الله بعد الدار والآمال بساكنها مطيفة، بل كان لك الذكر في قلب الخليفة نعم الخليفة، وكنت لديه وإن غبت حاضراً بجميل الذكر، ونأيت داراً فقربك إليه حسن التصوير في الفكر. وكان أمير المؤمنين قد شاهدك يافعاً، وشهد خاطره أن ستصير للمسلمين نافعاً، وتأمل منك أمائر أضحى لها لترقيك آملاً، وهلالاً دلته كرامته ولا تنكر الكرامة على ان سيكون بدراً كاملاً، وبلغه عنك من العدل والإحسان، ما أعجز وصفه بلاغتي القلم واللسان، فناداك نداءه على بعد المزار، ولم يجد لك نظيراً فأطال وأطاب لمقدمك السعيد الانتظار، غلى أن أقدمت إقدام الليث، وقدمت إلى البلاد المتعطشة إلى نظرك الشريف قدوم الغيث، فلاح بك على الوجود دليل الفلاح، وحمد الرعايا سراك عند الصباح والاستصباح وشاهدوا منك أسداً فاق بوثباته وثباته الأول، وشخصاً لا يصلح إلا لإدالة دول ولا تصلح إلا لمثله الدول، وقامت باختبارك على اختيارك الدلائل، وعرفك سرير الملك وعرف فيك من أبيك شمائل، ورأى أمير المؤمنين من نجابتك فوق ما أخبرت به مساءلة الركبان، ومن مهابتك ما دل على خفض الشانيء ورفع الشان، ومن محامدك كل ما صغر الخبر عنها الخبر، وأعلنت ألسنة الأقدار بأنه لم يبق على تقليدك الممالك الإسلامية بحمد الله تعالى عذر، فاختارك على علم العالمين، واجتباك للذب عن الإسلام والمسلمين، واستخار الله تعالى في ذلك فخار، وأفاض عليك من بيعته المباركة مع فخرك المشتهر حلل الفخار، وعهد إليك في كل ما اشتملت عليه دعوة إمامته المعظمة، وأحكام خلافته التي لم تزل بها عقود الممالك في الطاعة منظمة، وفوض إليك سلطنة الممالك الإسلامية براً وبحراً، شاماً ومصراً، قرباً وبعداً، غوراً ونجداً، وما سيفتحه الله عليك من البلاد، وتستنقذه من أيدي ذوي الإلحاد، وتقليد الملوك والوزراء، وقضاة الحكم العزيز وتأمير الأمراء، وتجهيز العساكر والبعوث للجهاد في سبيل الله ومحاربة من ترى محاربته من الأعداء، ومهادنة من ترى مهادنته منهم، وجعل إليك في ذلك كله العقد والحل، والإبرام والنقض والولاية والعزل، وقلدك ذلك كله تقليداً يقوم في تسليم الممالك إليك مقام الإقليد، ويقضي لقريبها وبعيدها بمشيئة الله تعالى بمزيد التمهيد والتشييد: لتعلم أن الله قد جعل الأيام الشريفة الحاكمية أدامها الله تعالى فلكاً أبدى سالفاً من البيت المنصوري الشريف أقماراً، وأطلع منهم آنفاً بدراً ملأ الخافقين أنواراً، فكلما ظهرت لسلفه مآثر بدت مآثر خلفه أظهر، ومن شاهدهم وشاهد شمس سعادته المنزهة عن الأفول قال هذا أكبر، وكلما ذكر لأحدهم فضلٌ علم أنه في أيامه متزيد، وأنه إن مضى منهم سيد في سبيله، فقد قام بأطراف الأسنة منهم سيد، وصير الدولة الشريفة الخليفية غاباً إن غاب منهم أسود، خلفهم شبل بشرت مخايله أنه عليه يسود.
فليتقلد السلطان الملك الناصر ما قلده أمير المؤمنين، وليكن لدعوته الهادية من الملبين وعليها من المؤمنين، وليرتق إلى هذه الرتبة التي استحقها بحسبه، واسترقها بنسبه، وليباشرها مستبشراً، ويظهر من شكر الله تعالى عليها ما يغدو به مستظهراً، فقد أراد أمير المؤمنين القيام في نصرة الدين الحنيف فأقامك أنت مقامه، وصرف بك بين أهله الطاعة والعصيان إكرامه وانتقامه، رعياً لعهد سلفك الكريم، ولما استوجبته نفسك النفيسة من وفور التعظيم والتكريم، وعنايةً بالعساكر المؤيدة الذين وجهوا وجوه آمالهم إليك، وأبت كلمتهم التي صانها الله عن التفرق أن تجتمع في الطاعة والخدمة إلا عليك ولديك، ومنةً عليهم بسلطان ما برحوا من الله تعالى يطلبونه، وملك نشأوا بأبوابه العالية فلهذا يحبهم ويحبونه.
فاحمد الله تعالى الذي جعل لك في إعادة الملك أسوةً بسليمان عليه السلام، ورده إليك رداً لا انفصال لعروته ولا انفصام، فأضحيت لأمور عباده سدداً، ولثغور بلاده سدداً، وللخليفة عضداً في الخليقة، وفي الدهر سامي الحقيقة حامي الحقيقة، وللملك وارثاً، ورقاك رقياً أصبحت به في السلطنة واحداً وللخلافة المعظمة ثانياً وللقمرين ثالثاً.
وبشراك! أن الله أبرم سبب تأييدك إبراماً لا تصل الأيدي إلى نقضه، وأنك سئلت عن أمرٍ طالما أتعب غيرك سؤاله في بعضه، وأن الله يحسن لك العون وبك الصون، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا عبد الرحمن بن سمرة! لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها عن المسألة وكلت إليها، وإن أعطيتها عن غير مسألة أعنت عليها.
وبشراك! أن أمير المؤمنين خصك بمزيد من الاعتناء، وأقامك مقامه في حسن الغناء، وحقق أن السعادة في أيامه موصولةٌ منكم بالآباء والأبناء، وبلغك بهذا التقليد الشريف الأماني وتوجه بيمين قريبة عهد باستلام الركن اليماني، واصطفاك بلقب أظهر له الكشوف إشراق تلك الستور، وغدا مغموراً بالهداية ببركة البيت المعمور، ونظرٍ زادته مشاهدة الحرم الشريف النبوي نوراً على نور، فقابل ذلك بالقيام في مهمات الإسلام، وتدقيق النظر في مصالح الخاص والعام، واجتهد في صيانة الممالك اجتهاداً يحرس منها الأوساط والأطراف، وتنتظم به أحوالها أجل انتظام وتأتلف أجمل ائتلاف.
والوصايا كثيرةٌ وأولاها تقوى الله: فليجعلها حليةً لأوقاته، ويحافظ عليها محافظة من يتقيه حق تقاته، ويتخذها نجي فكره وأنيس قلبه، ويعظم حرمات الله: {ومن يعظم حرمات الله فهو خيرٌ له عند ربه}.
والشرع الشريف فهو لعقد الإسلام نظام، وللدين القيم قوام، فتجتهد في اقتفاء سننه، والعمل بمفروضه وسننه، وتكريم أهله وقضاته، والتوسل بذلك إلى الله في ابتغاء مرضاته.
وأمراء دولتك فهم أنصار سلفك الصالح، وذوو النصائح فيما آثروه من المصالح، وخلصاء طاعنهم في السر والنجوى، وأعوانهم على البر والتقوى، وهم الذين أحلهم والدك من العناية المحل الأسنى، والذين سبقت لهم بحسن الطاعة من الله الحسنى، ولو لم يكن لهم إلا حسن الوفاء، لكفاهم عندك في مزيد الاعتماد والاستكفاء، فإنهم جادلوا في إقامة دولتك وجالدوا، وأوفوا بالعهد فهم الموفون بعهدهم إذا عاهدوا، وهم للوصايا بخدمتك واعون، وفيما ائتمنتهم عليه لأماناتهم وعهدهم راعون، قد أصفوا لك النيات بظهر الغيب، وأخلصوا الطاويات إخلاصاً لاشك معه ولا ريب، ونأبوا عنك أحسن مناب، وكفوا كف العدو فما طال له لافتراس ولا اختلاس ظفرٌ ولا ناب، واتخذوا لهم بذلك عند الله وعندك يداً، وأثلوا لهم به مجداً يبقى حديثه الحسن الصحيح عنهم مسنداً.
فاستوص بهم وبسائر عساكر المنصورة أخيراً، وأجمل لهم سريرةً وفيهم سيراً، وأحمدهم عقبى هذه الخدمة، وأوردهم منهل إحسانٍ يضاعف لهم النعمة والنغمة: لتؤكد طاعتك على كل إنسان، ويثقوا بحسن المكافأة: {هل جزاء الإحسان إلا الإحسان}. ولتزداد أوامرك ونواهيك امتثالاً، ولا يجدوا عن محبة أيامك الشريفة انتقالاً، وليقال في حسن خدمهم وإحسانك: هكذا هكذا وإلا فلا لا.
وأما الغزو والجهاد في سبيل الله تعالى، وما أوجبه فيهما قوله: انفروا خفافاً وثقالاً، فأقل ما يجزيء فرض الكفاية منه مرةً في كل عام، وأما فرض العين فوجوبه على ذوي الاستطاعة من المسلمين عام، وقد عرفت سنن السلطانين الشهيدين: والدك وأخيك قدس الله روحهما في الاعتناء بجهاد الكفار، وغزوهم في عقر الدار، وموقف أحدهما في موطنٍ زلت فيه الأقدام عن الإقدام، واجتمع فيه الكفر على الإسلام، وشاب من هوله الوليد، ومصابرته تجاه سيف من سيوف الله تعالى الإمام خالد بن الوليد، واستنقاذاً لآخر البلاد الساحلية التي أنقذها الله من أيدي المشركين على يد الصلاحين، وفتح لهما، أبواب الجنة ببركة الافتتاحين، وأن والدك وأخاك سداً على المشركين الفجاج، وطهرا من أرجاسهم العذب الفرات والملح الأجاج، فالكتائب المنصورية، أبادت التتار بالسيوف المشرفية، والممالك الإسلامية، زهت نظاماً بالفتوحات الأشرفية، فاجتهد في إعلاء كلمة الدين أتم اجتهاد، وعززهما بثالث في الغزو والجهاد.
وأما الرعايا بعيدهم وقريبهم، ومستوطنهم وغريبهم، فيوفيهم من الرعاية حظهم، ويجزل صيانتهم وحفظهم، وكما يرى الحق له فلير الحق عليه، ويحسن إلى رعاياه كما أحسن الله إليه وأما العدل فإنه للبلاد عمارة، وللسعادة أمارة، وللآخرة منجاة من النفس الأمارة، فليكن له شعاراً ودثراً، وليؤكد مراسمه في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والمحافظة من ذلك على ما يذكر به عند الله ويشكر.
والحدود الشرعية فليحل بإقامتها لسانه وطرسه، ولا يتعدها بنقص ولا زيادة {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. والله يخلد له رتبة الملك التي أعلى بها مقامه، ويديمه ناصراً للدين الحنيف فأنصاره لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة، ويجعل سبب هذا العهد الشريف مدى الأيام متيناً، ويجدد له في كل وقت نصراً قريباً وفتحاً مبيناً. والخط الحاكمي أعلاه حجةٌ بمقتضاه، إن شاء الله تعالى.
الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمد وآله وسلامه، حسبنا الله ونعم الوكيل.
وعلى نحو ذلك كتب القاضي علاء الدين بن عبد الظاهر عن المستكفي بالله، أبي الربيع سليمان، عهد الملك المظفر ركن الدين بيبرس المنصوري الجاشنكير. وهذه نسخته: هذا عهدٌ شريفٌ انتظمت بع عقود مصالح الملك والممالك، وابتسمت ثغور الثغور ببيعته التي شهدت بصحتها الكرام الملائك، وتمسكت النفوس بمحكم عقده النضيد ومبرم عقده النظيم، ووثقت بميثاقه فتركت الألسن مستفتحةً بقول الله الكريم: {إنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم}.
الحمد لله الذي جعل الملة الإسلامية تأوي من سلطانها إلى ركن شديد، وتحوي من متابعة مظفرها كل ما كانت ترومه من تأبيد التأييد، وتروي أحاديث النصر على ملك لا يمل من نصرة الدين الحنفي وإن مل الحديد من الحديد، مؤتي ملكه من يشاء من عباده، وملقي مقاليده للولي الملي بقمع أهل عناده، ومانحه من لم يزل بعزائمه ومكارمه مرهوباً مرغوباً، وموليه وموليه من غدا محبواً من الأنام بواجب الطاعة محبوباً، ومفوض أمره ونهيه إلى من صرف خطيه عن حمى الدين أخطاراً وخطوباً.
الحمد لله مجري الأقدار، ومظهر سر الملك فيمن أضحى عند الإمامة العباسية بحسن الاختبار من المصطفين الأخيار، جامع أشتات الفخار، ورافع لواء الاستظهار، ودافع لأواء الأضرار بجميل الالتجاء إلى ركنٍ أمسى بقوة الله تعالى عالي المنار، وافي المبار، بادي الآثار الجميلة والإيثار.
والحمد لله على أن قلد أمور السلطنة الشريفة لكافلها وكافيها، وأسند عقدها وحلها لمن يدرك بكريم فطنته وسليم فطرته عواقب الأمور من مباديها، وأيد الكتائب الإيمانية بمن لم تزل عواليه تبلغها من ذرى الأماني معاليها.
يحمده أمير المؤمنين على إعلاء كلمة الإيمان بأعيان أعوانها، وإعزاز نصرها بأركان تشييدها وتشييد أركانها، ويشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً لا تبرح الألسنة ترويها والقلوب تنويها، والمواهب تجزل لقائها تنويلاً وتنويها، ويشهد أن محمداً عبده ورسوله أكمل نبي وأفضل مبعوث، وأشرف مورث لأجل مورث، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه صلاةً تنمي بركاتها وتنم، وتخص حسناتها وتعم، ورضي الله عز وجل عن عمه العباس جد أمير المؤمنين، وعن آبائه الأئمة المهديين، الذين ورثوا الخلافة كابراً عن كابر، وسمت ووسمت بأسمائهم ونعوتهم ذرى المنابر.
أما بعد فإن الله عز وجل لما عدق بمولانا أمير المؤمنين مصالح الجمهور، وعقد له البيعة في أعناق أهل الإيمان فزادهم نوراً على نور، وأورثه عن أسلافه الطاهرين إمامة خير أمة، وكشف بمصابرته من بأس العدا ظلام كل غمة، وأنزل عليه السكينة في مواطن النصر والفتح المبين، وثبته عند تزلزل الأقدام وثبت به قلوب المؤمنين، وأفاض عليه من مهابة الخلافة ومواهبها ما هو من أهله، وأتم نعمته عليه كما أتمها على أبويه من فبله بايع الله تعالى على أن يختار للتمليك على البرايا، والتحكيم في الممالك والرعايا، من أسس بنيانه على التقوى، وتمسك من خشية الله تعالى بالسبب الأقوى، ووقف عند أوامر الشرع الشريف في قضائه وحكمه، ونهض لأداء فرض الجهاد بمعالي عزمه وحزمه، وكان المقام الأشرف العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، المظفري، الركني، سلطان الإسلام والمسلمين، سيد الملوك والسلاطين، ناصر الملة المحمدية، محيي الدولة العباسية، أبو الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين: أعز الله تعالى ببقائه حمى الخلافة وقد فعل، وبلغ في بقاء دولته الأمل هو الملك الذي انعقد الإجماع على تفضيله، وشهدت مناقبه الطاهرة باستحقاقه لتحويل الملك إليه وتخويله، وحكم التوفيق والاتفاق بترقيه إلى كرسي السلطنة وصعوده، وقضت الأقدار بأن يلقي إليه أمير المؤمنين أزمة عهوده، والذي كم خفقت قلوب الأعادي عند رؤية آيات نصره، ونطقت ألسنة الأقدار بأن سيكون مليك عصره وعزيز مصره، واهتزت أعطاف المنابر شوقاً للافتخار باسمه، واعتزت الممالك بمن زاده الله بسطةً في علمه وجسمه، وهو الذي ما برح مذ نشأ يجاهد في الله حق جهاده، ويساعد في كل معركة بمرهفات سيوفه وملتفات صعاده، ويبدي في الهيجاء صفحته للصفاح فيقيه الله ويبقيه: ليجعله ظله على عباده وبلاده، فيردي الأعداء في مواقف تأييده فكم عفر من خدٍ لملوك الكفر تحت سنابك جياده، ويشفي بصدور سيوفه صدور قومٍ مؤمنين، ويسقي ظماء أسنته فيرويها من مورد وريد المشركين، ويطلع في سماء الملك من غرر آرائه نيراتٍ لا تأفل ولا تغور، ويظهر من مواهبه ومهابته ما تحسن به الممالك وتحصن الثغور، فما من حصنٍ استغلقه الكفر إلا وسيفه مفتاحه، ولا ليل خطب دجا إلا وغرته الميمونة صباحه، ولا عز أملٌ لأهل الإسلام إلا وكان في رأيه المسدد نجاحه ولا حصل خللٌ في طرفٍ من الممالك إلا وكان بمشيئة الله تعالى وبسداد تدبيره صلاحه، ولا اتفق مشهد عدو إلا والملائكة الكرام بمظافرته فيه أعدل شهوده، ولا تجدد فتوحٌ للإسلام إلا جاد فيه بنفسه وأجاد، والجود بالنفس أقصى غاية الجود.
كم أسلف في غزو أعداء الدين من يومٍ أغر محجل، وانفق ماله ابتغاء مرضاة الله سبحانه فحاز الفخر المعجل والأجر المؤجل، وأحيا من معالم العلوم ودوارس المدارس كل داثر، وحثه إيمانه على عمارة بيوت الله تعالى الجامعة لكل تالٍ وذكر: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر}. وهو الذي ما زالت الأولياء تتخيل مخايل السلطنة في أعطافه معنى وصورة، والعداء يرمون إطفاء ما أفاضه الله عليه من أشعة أنواره: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره}. طالما تطأولت إليه أعناق الممالك فأعرض عنها جانباً، وتطفلت على قربه فكان لها رعايةً لذمة الوفاء مجانباً، حتى أذن الله لكلمة سلطانه أن ترفع، وحكم له بالصعود في درج الملك إلى المحل الأعلى والمكان الأرفع، وأدى له من المواهب ما هو على اسمه في ذخائر الغيوب مستودع.
فعند ذلك استخار الله تعالى سيدنا ومولانا الإمام المستكفي بالله أمير المؤمنين أبو الربيع سليمان ابن الإمام الحاكم وذكر نسبه على العادة جعل الله الخلافة كلمة باقيةً في عقبه، وأمتع الإسلام والمسلمين بشرفي حسبه ونسبه، وعهد إلى المقام العلي السلطاني بكل ما وراء سرير خلافته وقلده جميع ما هو مقلده من أحكام إمامته، وبسط يده في السلطنة المعظمة، وجعل أوامره هي النافذة وأحكامه هي المحكمة، وذلك بالديار المصرية، والممالك الشامية، والفراتية، والجبلية، والساحلية، والقلاع والثغور المحروسة، والبلاد الحجازية، واليمانية، وكل ما هو لخلافة أمير المؤمنين منسوب، وفي أقطار إمامته محسوب، وألقى إلى أوامره أزمة البسط والقبض، والإبرام والنقض، والرفع والخفض، وما جعله الله في يده من حكم الأرض، ومن إقامة سنة وفرض، وفي كل هبة وتمليك، وتصرف في ولاية أمور الإسلام من غير شريك، وفي تولية القضاة والحكام، وفصل القضايا والأحكام، وفي سائر التحكم في الوجود، وعقد الألوية والبنود، وتجنيد الكتائب والجنود، وتجهيز الجيوش الإسلامية ممن التأييد إلى كل مقام محمود، وفي قهر الأعداء الذين نرجو بقوة الله تعالى أن يمكنه من نواصيهم، ويحكم قواضبه في استنزالهم من صياصيهم، واستئصال شأفة عاصيهم، حتى يمحو إن شاء الله تعالى بمصابيح سيوفه سواد خطوب الشرك المدلهمة، وتغدو سراياه في اقتلاع قلاع الكفر مستهمة، وترهبهم خيل بعوثه وخيالها في اليقظة والمنام، ويدخل في أيامه أهل الإسلام مدينة السلام بسلام تفويضاً تاماً عاماً، منضداً منظماً محكماً محكماً، أقمه مولانا أمير المؤمنين في ذلك مقام نفسه الشريفة، واستشهد الكرام الكاتبين في ثبوت هذه البيعة المنيفة.
فليتقلد المقام الشريف العالي السلطاني أعزه الله نصره عقد هذا العهد الذي لا تطمح لمثله الآمال، وليستمسك منه بالعروة الوثقى التي لا انفصام لها ولا انفصال، فقد عول أمير المؤمنين على يمن آرائك التي ما برحت الأمة بها في المعضلات تستشفي، واستكفى بكفايتك وكفالتك في حياطة الملك فأضحى وهو بذلك المستكفي، وهو يقص عليك من أنباء الوصايا أحسن القصص، وينص لديك ما أنت آخذٌ منه بالعزائم إذا أخذ غيرك فيه بالرخص، فإن نبهت على التقوى فطالما تمسكت منها بأوثق عروة، وإن هديت إلى سبيل الرشاد فما زلت ترقى منه أشرف ذروة، وغن استرهفنا عزمك الماضي الغرار، واستدعينا حزمك الذي أضاء به دهرك واستنار، في إقامة منار الشرع الشريف، والوقوف عند نهيه وأمره في كل حكم وتصريف، فما زلت خلد الله سلطانك قائماً بسنته وفرضه، دائباً في رضا الله تعالى بإصلاح عقائد عباده في أرضه، وما برح سيفك المظفر للأحكام الشرعية خادماً، ولمواد الباطل حاسماً، ولأنوف ذوي البدع راغماً، فكل ما نوصيك به من خير قد جبلت عليه طباعك، ولم يزل مشتداً فيه ساعدك ممتداً إليه باعك، غبر أنا نورد لمعة اقتضاها أمر الله تعالى بالتذكرة في كتابه المبين، وأوجبها نص قوله تعالى: {وذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين}. ويندرج تحت أصولها فروعٌ يستغني بدقيق ذهنه الشريف عن نصها، وبفكره الثاقب عن قصها، فأعظمها للملة نفعاً، وأكثرها للباطل دفعاً، الشرع الشريف: فليكن أعز الله نصره عاملاً على تشييد قواعد إحكامه، وتنفيذ أوامر أحكامه، فالسعيد من قرن أمره بأمره، ورضي فيه بحلو الحق ومره. والعدل فلينشر لواءه حتى يأوي إليه الخائف، وينكف بردعه حيف كل خائف، ويتساوى في ظله الغني والفقير، والمأمور والأمير، ويمسي الظلم في أيامك وقد خمدت ناره، وعفت آثاره.
وأهم ما احتفلت به العزائم، واشتملت عليه همم الملوك العظام، وأشرعت له الأسنة وأرهفت من أجله الصوارم، أمر الجهاد الذي جعله الله تعالى حصناً للإسلام وجنة، واشترى فيه أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة، فجند له الجنود وأجمع له الكتائب، واقض في مواقفه على الأعداء من بأسك بالقواضي القواضب، وأغزهم في عقر الدار، وأرهف سيفك البتار: لتأخذ منهم للمسلمين بالثار. والثغور والحصون، فهي سر الملك المصون، وهي معاقل النفوس إذا دارت رحى الحرب الزبون، فليقلد أمرها لكفاتها، ويخص حمايتها بحماتها، ويضاعف لمن بها أسباب قوتها ومادة أقواتها. وأمراء الإسلام وجنود الإيمان فهم أولياء نصرك، وحفظة شامك ومصرك، وحزبك الغالب، وفريقك الذين تفرق منهم قلوب العدا في المشارق والمغارب، فليكن المقام العالي السلطاني أعزه الله تعالى لأحوالهم متفقداً، وببسط وجهه لهم متودداً، حتى تتأكد لمقامه العالي طاعتهم، وتتجدد لسلطانه العزيز ضراعتهم. وأما غير ذلك من المصالح، فما برح تدبيره الجميل لها ينفذ ورأيه الأصيل بها يشير، فلا يحتاج معه عمله بغوامضها إلى إيضاحها {ولا ينبئك مثل خبير}. والله تعالى يخص دولته من العدل والإحسان بأوفر نصيب، ويمنح سلطانه ما يرجوه من النصر المعجل والفتح القريب، إن شاء الله تعالى.
المذهب الثاني: أن يفتتح العهد بلفظ من فلان باسم الخليفة وكنيته ولقب الخلافة إلى فلان باسم السلطان وكنيته ولقب السلطنة كما في المكاتبات:
ثم تارةً يأتي بعد البعدية بتحميد، مثل أن يقول: أما بعد فالحمد لله، ويتلخص إلى ذكر أمر الولاية وما ينخرط في سلكها، وتارةً يأتي بعد البعدية بخطاب المولى والدعاء له، ويتلخص إلى مقاصد العهد: من الوصايا وغيرها، على اختلاف مقاصد الكتاب، وعلى ذلك كانت العهود في دولة الفاطميين بمصر.
قات: وقد يستحسن هذا المذهب فيما إذا كان المعهود إليه غائباً عن حضرة الخليفة: لأن العهد يصير حينئذ كالرسالة الصريحة إليه، بخلاف ما إذا كان بحضرته فإنه لا يكون في معنى الرسالة الصريحة.
وعلى هذا المذهب كتب أبو إسحاق الصابي عن الطائع لله عهد شرف الدولة شيرزيك بن عضد الدولة بن بويه، وهذه نسخته: من عبد الله عبد الكريم الإمام الطائع لله أمير المؤمنين، إلى شيرزيك بن عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع مولى أمير المؤمنين: سلامٌ عليك، فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على محمدٍ عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.
أما بعد أطال الله بقائك، أدام عزك وتأييدك وسعادتك ونعمتك وأمتع أمير المؤمنين بك وبالموهبة فيك وعندك فإن أمير المؤمنين يرى أن يحفظ على كل وليٍ أحمد مذاهبه، وأرضى ضرائبه، وانصرف عن الدنيا متمسكاً بطاعته، متديناً بمشايعته، حقوقه المتوحدة، وحرماته المتمهدة، فيمن يخلفه بعده من ولدٍ أمل أن يرث عن محله، ويقوم فيه مقامه، وفاءً لأهل الولاية، وتصرفاً على أحكام الرعاية، وسياقةً للصنيعة من سالفٍ إلى خالف، وإمضائها من تالدٍ إلى طارف. هذا على الأمر الجامع، والعموم الشامل، فإذا اتفق أن منتهى وراثة القرب إليه، والمنازل لديه، إلى النجباء الأفاضل، والحصفاء الأماثل، الذين يستحبون استئناف الاصطناع لهم، واستقبال التفويض إليهم بالمناقب الموجودة فيهم، لو انفردت عما حازوه عن آبائهم وأوليائهم، أجرى أمير المؤمنين ما يفضيه عليهم من الأيادي، ويرقيهم إليه من هضاب المعالي، مجرى الأمر الواجب الذي كثرت الدواعي إليه، واتفق الرأي والهوى عليه، وتطابق الإيثار والاختبار فيه، واقرن الصواب والسداد به، واشترك المسلمون في استثمار فائدته وعائدته، والانتفاع بتأديته وعاقبته، والله يخير لأمير المؤمنين فيما يمضيه من العزائم ويبنيه من الدعائم، ويعتمده من المصالح، ويتوخاه من المناجح، إنه على ذلك قدير، وبه جدير، وهو حسب أمير المؤمنين ونعم الوكيل.
وقد علمت أدام الله عزك وأمتع أمير المؤمنين بك أن شجرة بيتك هي التي تمكنت في الخدمة أصولها والفضيلة منوطةٌ بها، وأسباب التمام والدوام مجتمعةٌ فيها، فلذلك سبغت النعمة عليكم وامتد ظلها إليكم، ونقلت فيها أقداحكم، وتوفرت منها حظوظكم، فتداولتموها بينكم كابراً عن كابر بمساعيكم الصالحة، ومناهجكم الواضحة، وتعاضدكم على ما لم تشعث الدولة الجامعة، وطرف عنها الأعين الحاسدة، وكان شيخك عضد الدولة، وتاج الملة، أبو شجاع رضوان الله عليه، صاحب الرتبة الزعمى عند أمير المؤمنين وهمامها، والممتطي غاربها وسنامها، فعاش ما عاش مشكوراً محموداً، ثم انقلب إلى لقاء ربه سعيداً رشيداً، وأوجب أمير المؤمنين لك وله منك الحلول بمكانه، وحيازة خطره وشانه، إذا كنت أظفر ولده، وأول المستحقين لوراثته، وكانت فيك مع ذلك الأدوات المقتضيات لأن يفوض الأمور إليك، ويعتمد فيها عليك: من كفاية وغناء، واستقلال ووفاء، وسياسةٍ وتدبير، وشهامةٍ وتشمير، وتصرفٍ على طاعة أمير المؤمنين، وإشبالٍ على إخوتك أجمعين، وحسن أثرٍ فيما أنفذ أمرك فيه، وإفاضة أمنٍ فيمن أمضيت ولايتك عليه، وإحاطةٍ بدلائل الحوالة ومخايل الأصالة، بمثلها تنال الغايات الأقاصي، وتفترع الذوائب والنواصي، فنولك أمير المؤمنين تلك المأثرة، وخولك تلك المفخرة وجعل أخاك صمصام الدولة، وشمس الملة، أبا كاليجار أمتع الله بكما أمير المؤمنين بك تأييده والمتقدم بعدك على ولد أبيك، وأجراكما في التطبيق بينكما والتقرير لمنازلكما على مثل ما جرى الأمر عليه بين ركن الدولة أبي عليٍ ومعز الدولة أبي الحسين سالفاً، ثم بين عضد الدولة وتاج الملة أبي شجاع ومؤيد الدولة أبي منصور آنفاً، تولاهم الله بالرحمة، ونفعهم بما قبضهم عليه من وثائق العصمة، وخصك أمير المؤمنين بعد ذلك بما يخص به ذو القدر الشامخ والقدم السابقة، والمحلة السامية، فذكرك بالتكنية، ورفعك عن التسمية، ولقبك لقبين: أحدهما شرف الدولة لتشريفه بك أولياءه الذين أوطأهم عقبك، وأعلقهم حبلك والآخر زين الملة لزينة أيامه بمعاليك، وتضاعف جمالها بمساعيك، وعقد لك بيده لواءين يلويان إليك الأعناق بالطوع ممن سراه وأبهجاه، والكره ممن راعاه وأزعجاه، وأمر أن تقام لك الدعوة على منابر مدينة اللام وما يجري معها من الأعمال بين الدعوة لأمير المؤمنين وبين الدعوة لصمصام الدولة وشمس الملة، أمتع الله أمير المؤمنين بكما، وأحسن الدفاع له عنكما: إلحاقاً لك وله بعدك بأبيكما فيما كان شرف به من هذه الحال التي لم يبلغها غيره ولا أهل لها أحدٌ قبله، وان يثبت ذكرك باللقب والكنية فيما ينقش من سكك العين والورق في دور الضرب بادياً وذكر صمصام الدولة كلأكما الله تالياً، وحباك أمير المؤمنين مع ذلك بخلع تامة تفاض عليك، وفرسين من جياد خيله يقادان إليك، بمركبي ذهب من خاص مراكبه وسيفٍ ماضٍ من خيار أسيافه، يعز الله منكبيك بنجاديه، ويذل مناكب أعدائك بغراريه، وطوق وسوارين. وأن تجري في المكاتبة عنه إلى الغاية التي أجري أبوك رحمه الله إليها، وهذا الكتاب ناطقٌ بها ودالٌ عليها. وندب لإيصال الجميع إليك علي بن الحسين الهاشمي الزيني، واحمد بن نصر العباسي حاجبه ووحى خادمه، فتلق شرف الدولة وزين الملة وأبا الفوارس ذلك أدام الله عزك بما يحق عليك من تقوى الله في سرك وجهرك، ومراقبته في قولك وعملك، وابتغاء رضه في مختلج خطراتك وفكرك، واتباع طاعته في مخارج أمرك ونهيك، وقابل ما أنعم به عليك، وأحسن فيه إليك، بالشكر الذي موقعه من النعمة موقع القرى من الضيف، فإن وجده لم يذم، وإن فقده لم يقم، وامدد على من وليت عله من الخاصة والعامة ظلك، ووطيء لهم كنفك، واغمرهم بطولك، وسسهم سياسةً يكون بها صلاحهم مضموناً، وحريمهم مصوناً، وبلادهم معمورة، ومنافعهم موفورة، وحلبهم داراً، وعيشهم رغداً، وثغورهم مسدودة، وأعاديهم مذودة، ومسالكهم محمية، ومساكنهم مرعية، ومرهم بالمعروف، وانههم عن المنكر، وابعثهم على الحسنات، واكففهم عن السيئات، وساو في الحق بين شريفهم ومشروفهم، وقويهم وضعيفهم، وقريبهم وغريبهم، ومليهم وذميهم وقوم سفهاءهم وجهالهم، وانف دعارهم وخرابهم، وأكرم صلحاءهم وعلماءهم، وشاور فضلاءهم وعقلاءهم، وجالس أدنياءهم وأعلياءهم، وأنلهم مراتبهم، ونزلهم منازلهم، وأرهم تمسكك بالدين ليقتدوا بك فيه، ورغبتك في الخير ليتقربوا إليك به، وخذ الحق وأعطه، وابسط العدل وقل به، وادرإ الحدود بالشبهات، وأقمها وأمضها بالبينات: لتكون الرغبة إليك في رغب، والرهبة منك في رهب، وبالجملة فاحمل الناس على كتاب الله جل وعز وآدابه، وسنة الرسول وما جاآ به.
واعلم أن أمير المؤمنين قد جعل كتابه هذا عهداً إليك، وحجةً لك وعليك، وأن الأوامر والنواهي في العهود تكون كثيرة: وإنما قصر فيه عن استيفائها، لارتفاع طبقتك عن الحجة إلى استقصائها، وللخروج إلى الله من الحق في تضمينه هذه الجمل منها، فإذا وصل ذلك إليك مع كرامات أمير المؤمنين المقدم ذكرها لك، فالبس خلعه، وتقلد سيفه وتحل بحلاه، وابرز لمن يليك على حملانه، وأظهر له ضروب إحسانه وامتنانه، وانصب أمامك الواءين، وتكن وتلقب باللقبين، وكاتب من تكاتب من طبقات الناس متلقباً بهم متكنياً، إلا أمير المؤمنين فإن الأدب أن لا تكاتبه متلقباً بل متسمياً، وليس ذلك ناقصاً لك فيما أعطيته، ولا مرتجعاً شيئاً مما حبيته، ولكنه الأمر بالمعروف، والرسم المألوف، وصل ما بينك وبين أخيك صمصام الدولة وشمس الملة أدام الله الإمتاع بكما بالمودة، كما وصله الله بالأخوة، واتفقا على مسالمة المسالمين، وتعاضدا في محاربة المحاربين، فإن ذلك أرأب للصدع، وأحتم للبشر، وانظم للشمل، وأليق بالأهل. وأقم الدعوة لنفسك على منابر الممالك بعد إقامتها لأمير المؤمنين، وكاتب أمير المؤمنين بأخبارك، وطالعه بآثارك، واستدع أمره فيما استعجم من التدبير عليك ورأيه فيما استبهم من الأمور دونك، واسترشده إلى الحظ يرشدك، واستهده في الخطوب يهدك، واستمده من المعونة يمددك، واشكر آلائه يزدك، إن شاء الله تعالى.
أطال الله بقاءك وأدام عزك وتأييدك، وسعادتك ونعمتك، وأمتع أمير المؤمنين بك وبالرغبة فيك وعندك، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وعلى هذا النمط كتب القاضي الفاضل عهد أسد الدين شيركوه بالوزارة عن العاضد الفاطمي، والوزارة يومئذ قائمةٌ مقام السلطنة على ما تقدم ذكره، وهذه نسخته: من عبد الله ووليه، عبد الله أبي محمدٍ الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين، إلى السيد، الأجل الملك، المنصور، سلطان الجيوش، ولي الأمة، فخر الدولة، أسد الدين، كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين، أبي الحارث شيركوه العاضدي، عضد الله به الدين، وأمتع بطول بقائه أمير المؤمنين، وأدام قدرته وأعلى كلمته.
سلامٌ عليك: فإن أمير المؤمنين يحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو، ويسأله أن يصلي على سيدنا محمدٍ خاتم النبيين، وسيد المرسلين، صلى الله عليه وعل آله الطاهرين، الأئمة المهديين، وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد فالحمد لله القاهر فوق عباده، الظاهر على من جاهر بعناده، القادر الذي يعجز الخلق عن دفع ما أودع ضمائر الغيوب من مراده، القوي على تقريب ما عزبت الهمم باستبعاده، الملي بحسن الجزاء لمن جاهد في الله حق جهاده، مؤتي الملك من يشاء بما أسلفه من ذخائر رشاده، ونازعه ممن يشاء بما اقترفه من كبائر فساده، منجد أمير المؤمنين بمن أمضى في نصرته العزائم، واستقبله الأعداء بوجوه الندم وظهور الهزائم، وفعلت له المهابة ما لا تصنع الهمم، وخلعت آثاره على الدنيا ما تخلعه الأنوار على الظلم، وعدمت نظراؤه بما وجد من محاسنه التي فاق بها ملوك العرب والعجم، وانتقم الله به ممن ظلم نفسه وإن ظن الناس أنه ظلم، وذاد عن أمير المؤمنين من هو منه أولى بها ويأبى الله سبحانه إلا إمضاء ما حتم، ورام إخفاء فضله وهل يشتهر الطيب المسك إلا إذا اكتتم؟ مؤيد أمير المؤمنين بإمامٍ أقر الله به عينهم وقضى على يده من نصرة الدين دينهم: {لو أنفقت ما في الأرض جميعاً ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم}.
الحمد لله الذي خص جدنا محمداً بشرف الاصطفاء والاجتباء، وأنهضه من الرسالة بأثقل الأعباء وذخر له من شرف المقام المحمود أشرف الأنصباء، وأقام به القسطاس، وطهر به من الأدناس، وأيده بالصابرين في البأساء والضراء وحين البأس، وألبس شريعته من مكارم الأفعال والأقوال أحسن لباس، وجعل النور سارياً منه في عقبه لا ينقصه كثرة الاقتباس: {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس}.
والحمد لله الذي اختار أمير المؤمنين لأن يقوم في أمته مقامه، وهدى بمراشد نوره إلى طرق دار المقامة، وأوضح به منار الحق وأعلامه، وجعله شهيد عصره، وحجة أمره، وباب رزقه، وسبيل حقه، وشفيع أوليائه، والمستجار من الخطوب بلوائه، والمضمونة لذويه العقبى، والمسؤول له الأجر في القربى، والمفترض الطاعة على كل مكلف، والغاية التي لا يقصر عنها بولائه إلا من تأخر في مضمار النجاة وتخلف، والمشفوع الذكر بالصلاة والتسليم والهادي إلى الحق وإلى طريق مستقيم، لا يقبل عملٌ إلا بخفارة ولائه، ولا يضل من استضاء بأنجم هدايته اللامعة، ولا دين إلا به ولا دنيا إلا معه: ليتضح النهج القاصد، ولتقوم الحجة على الجاحد، وليكون لشيعته إلى الجنة نعم الشافع والرائد، وليأتي الله به بنيان الأعداء من القواعد، وليبين لهم الذي اختلفوا فيه وليعلموا أنما هو إلهٌ واحد.
يحمده أمير المؤمنين على ما حباه من التأييد الذي ظهر فبهر، وانتشر فعم نفعه البشر، والإظهار الذي اشترك فيه جنود السماء والأرض، والإظفار الذي عقد الله منه عقداً لا تدخل عليه أحكام النقض، والانتصار الذي أبان الله به معنى قوله: {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض}.
ويسأله أن يصلي على سيدنا محمدٍ الأمين، المبعوث رسولاً في الأميين، الهادي إلى دار الخلود، المستقل بيانه استقلال عواثر الجدود، والمعدود أفضل نعمة على أهل الوجود، والصافية بشريعته مشارع النعمة، والواضحة به الحنيفية البيضاء لئلا يكون أمر الله عليهم غمة، وعلى أبينا أخيه وابن عمه أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب ناصر شريعته وقسيمه في النسب والسبب، ويد الحق التي حكم لها في كل طلب بالغلب، وعلى الأئمة من ذريتهما وسائط الحكم، ومصابيح الظلم ومفاتيح النعم، والمخفقين دعوى من باهاهم وفاخر، والباذلين جهدهم في جهاد من اتخذ مع الله إلهاً آخر، وسلم وردد، ووالى وجدد.
وإن أمير المؤمنين لما فوضه الله تعالى من إيالة الخليقة، ومنحه من كرم السجية وكرم الخليقة وبسطه من يد على أهل الخلاف، وأنجزه من موعوده الذي ليس له إخلالٌ ولا إخلاف، وأوضحه من براهين إمامته للبصائر، وحفظ به على الإسلام من طليعته المباديء وساقة المصير، وأورثه من المقام الذي لا ينبغي إلا له في عصره، واستخدم فيه السيوف والصروف ومن تأدية فرائض نصره، وأظهر له من المعجزات، التي لا يخلو منها زمن، وظاهر له من الكرامات، التي زادت على أمنية كل متمن، وأتمنه عليه من أسرار النبوة التي رآه الله تعالى لها أشرف مودع وعليها أكرم مؤتمن، وأجرى عليه دولته من تذليل الصعاب وتسهيل الطلاب، وتفليل أحزاب الشرك إذا اجتمع كما اجتمعوا على جده صلى الله عليه وسلم أهل الأحزاب يواصل شكر هذه النعم التوام، ويعرف بعوارفها الفرادى والتؤام، ويقدم بين يدي كل عمل رغبةً إليه في إيضاح المراشد، ونيةً لا تضل منها الهداية ولا سيما وهو الناشد، ويستخيره عالماً أنه يقدم إليه أسباب الخير، ويناجيه فيطلعه الإلهام على ما يحلي السير ويجلي الغير، ويأخذ بيد الله حقه إذا اغتصبت حقوقه، ويستنجد بالله إذا استبيح خلافة واستجيز عقوقه، ويفزع إلى الله تعالى إذا قرع الضائر، ويثق بوعد الله تعالى إذا استهلكت الشبه البصائر، فما اعترض ليل كربٍ إلا انصدع لله عن فجرٍ وضاح، ولا انتقض عقد غادر إلا عاجله الله سبحانه بأمرٍ فضاح، ولا انقطعت سبل نصرةٍ إلا وصلها الله تعالى بمن يرسله، ولا انصدعت عصا ألفة إلا تدارك الله تعالى بمن يجرده تجريد الصفاح، وإذا عدد أمير المؤمنين هذه النعم الجسيمة، والمنح الكريمة، واللطائف العظيمة، والعوارف العميمة، والآيات المعلومة، والكفايات المحتومة والعادات المنظومة، كنت أيها السيد الأجل أدام الله قدرتك، وأعلى كلمتك أعظم نعم الله تعالى أثراً، وأعلاها خطراً وأقضاها للأمة وطراً، وأحقها بأن تسمى نعمةً، وأجدرها بأن تعد رحمةً، وأسماها أن تكشف غمةً، وأنضاها في سبيل الله سبحانه عزمةً، وأمضاها على الأعداء حدا، وأبداها في الجهاد جدا، وأعداها على الأعداء يدا، وأحسنها فعلاً لليوم وأرجاها غدا، وأفرجها للأزمة وقد كادت الأمة تصير سدى وأحق الأولياء بأن يدعى للأولياء سيدا، وأبقاهم فعلةً لا ينصرم فعلها الذي بدا أبدا.
فليهنك أنك حزب الله الغالب، وشهاب الدين الثاقب، وسيف الله القاضب، وظل أمير المؤمنين الممدود، ومورد نعمته المورود، والمقدم في نفسه وما نؤخره إلا لأجل معدود، نصرته حين تناصر أهل الضلال، وهاجرت إليه هاجراً برد الزلال وبرد الظلال، وخضت بحار الأهوال، وفي يدك أمواج النصال، وها في جيدك اليوم عقد جواهر منه ونظم لآل، بل قد بلغت السماء وزينت منك بنجوم نهار لا نجوم ليال، وكشفت الغماء وهي مطبقةٌ، ورفعت نواظر أهل الإيمان وهي مطرقةٌ، وعقصت أعين الطغيان وهي مطلقةٌ، وأعدت بحنكتك على الدولة العلوية بهجة شبابها المونقة، وأنقذت الإسلام وهو على شفى جرفٍ هار، ونفذت حين لا تنفذ السهام عن الأوتار، وسمعت دعوته على بعد الدار، وأبصرت حق الله ببصيرتك وكم من أناس لا يرونه بأبصار، وأجليت طاغية الكفر وسواك اجتذبه، وصدقت الله سبحانه حين داهنه من لا بصيرة له وكذبه، وأقدمت على الصليب وجمراته متوقدة، وقاتلت أولياء الشيطان وغمراته متمردة، وما يومك في نصرة الدولة بواحد، ولا أمسك مجحودٌ وإن رغم أنف الجاحد، بل أوجبت الحق بهجرة بعد هجرة، وأجبت دعوة الدين قائماً بها في غمرة بعد غمرة، وافترعت صهوة هذا المحل الذي رقاك إليه أمير المؤمنين باستحقاقك، وأمات الله العاجزين بما في صدورهم من حسرات لحاقك، وكنت البعيد القريب نصحه، المحجوب النافذ بحجته المذعورة أعداء أمير المؤمنين به إن فوق سهمه أو أشرع رمحه، وما ضرك أن سخطك أعداء أمير المؤمنين وأمير المؤمنين قد ارتضاك، ولا أن منعك المعاند حقك وقد ارتضى لك واقتضاك، وما كان في محاجزتك عن الحظ في خدمة لذي أنت به منه أولى، ومدافعتك عن حقك في قرب مقامه الذي لا يستطيع طولا، إلا مغالبة الله فيك والله غالبٌ على أمره، ومباعدتك وقد قربك الله من سر أمير المؤمنين وإن بعدت من جهره، استشرفتك الصدور، وتطلعت إليك عيون الجمهور، واستوجبت عقيلة النعم بما قدمت من المهور، ونصرت الإيمان بأهله، وأظهرت الدين بمظاهرتك على الدين كله، وناهضت الكفرة بالباع الأشد والرأي الأسد، ونادتهم سيوفك: ولا قرار على زأر من الأسد وأدال الله بك ممن قدم على ما قدم، وندم فما أغنى عنه الندم، حين لج في جهالته، وتمادى في ضلالته، واستمر على استطالته، وتوالت من عثراتٌ ما أتبعها باستقالة، فكم اجتاح للدولة رجالاً، وضيق من أرزاقهم مجالاً، وسلب من خزائنها ذخائر وأسلحةً وأموالاً، ونقلها من أيدي أوليائها إلى أعداء الله تبارك وتعالى، واتسعت هفواته عن التعديد، وما العهد منها ببعيد، وقد نسخ الله تعالى بك حوادثها فوجب أن تنسخ أحاديثها، وأتى الأئمة منك بمن هو وليها والأمة بمن هو مغيثها، ودعاك إمام عصرك بقلبه ولسانه وخطه على بعد الدار، وتحقق أنك تتصرف معه حيث تصرف وتدور معه حيث دار، واختارك على ثقةٍ من أن الله تعالى يحمده فيك عواقب الاختيار، ورأى لك إقدامك ورقاب الشرك صاغرة، وقدومك وأفواه المخاوف فاغرة، وكرتك في طاعته وأبى الله تعالى أن تكون خاسرة، وسطا بك حين تمالى بك المشركون، وتمثل لرسلهم بقوله سبحانه: {اخسئوا فيها ولا تكلمون} وأنفت عزته هجنة الهدنة. وقال لأوليائه: {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنةٌ} وازدرى بخنازيرهم انتظار لوصولك بأسود الإسلام، وصبر على أنك تلبي نداءه بألسنة الأعلام قبل ألسنة الأقلام، فكنت حيث رجا وأفضل، ووجدت بحيث رعى وأعجل، وقدمت فكتب الله لك العلو، وكبت بك العدو، وجمع على التوفيق لك طرفي الرواح والغدو، ولم يلبس الكافر بسهامك جنةً إلا الفرار، وكان {كشجرةٍ خبيثةٍ اجتثت من فوق الأرض ما لها من قرار} فلله درك حين قاتلت بخبرك، قبل عسكرك، ونصرت بأثيرك، قبل عشيرك، وأكرم بك من قادم خطواته مبرورة، وسطواته للأعداء مبيرة، وكل يوم من أيامه يعد سيرة، وإنك لمبعوثٌ إلى بلاد أمير المؤمنين بعث السحاب المسخر، ومقدمٌ في النية وغن كنت في الزمان المؤخر، وطالعٌ بفئة الإسلام غير بعيد أن يفيء الله عليها بلاد الكفار، ورجال جهادٍ عددناهم عندنا من المصطفين الخيار، وأبناء جلاد يشترون الجنة بعزائم كالنار، وغرر نصرٍ سكون العدو بعدما غرورٌ ونومه غرار.
ولما جرى من جرى ذكره على عاداته في أمير المؤمنين حاشك والإيحاش منك بكواذب الظنون، ورام رجعتك عن الحضرة وقد قرت بك الدار وقرت بك العيون، وكان كما قال الله تعالى في كتابه المكنون: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل وقلبوا لك الأمور حتى جاء الحق وظهر أمر الله وهم كارهون} هنالك غضبت نفوس الإسلام ففتكت به أيديها، وكشفت له عن غطاء العواقب التي كانت منه مباديها، وأخذه من أخذ أليمٌ شديد، وعدل فيه من قال {وما ربك بظلامٍ للعبيد}، {إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلبٌ أو ألقى السمع وهو شهيد}.
ولما نشرت لواء الإسلام وطواه، وعضدت الحق وأضعف قواه، وجنيت عقبى ما نويت وجنى عقبى ما نواه، وأبيت إلا إمضاء العزم في الشرك وما أمضاه، {أفرأيت من اتخذ إلهه وأضله الله} ودفعت الخطب الأشق، وطلعت أنوار النصر مشرقة بك وهل تطلع الأنوار إلا من الشرق، وقال لسان الحق: فأي الفريقين أحق، قضى الله تعالى إلى أمير المؤمنين عدةً قدمها ثم قضاها، وولاه كما ولى جده صلى الله عليه وسلم قبلةً يرضاها وانتصر لك به انتصاره لآهل البيت بسلمانه وعماره، وأنطق أمير المؤمنين باصطفائك اليوم وبالأمس كنت عقد إضماره، وقلدك أمير المؤمنين أمر وزارته، وتدبير مملكته وحياطة ما وراء سرير خلافته، وصيانة ما اشتملت عليه دعوة إمامته، وكفالة قضاة المسلمين، وهداية دعاة المؤمنين، وتدبير ما عدقه الله بأمير المؤمنين من أمور أوليائه أجمعين، وجنوده وعساكره المؤيدين، المقيمين منهم والقادمين، وكافة رعايا الحضرة بعيدها ودانيها، وسائر أعمال الدولة باديها وخافيها، وما يفتحه الله تعالى على يديك من البلاد، وما تستعيده من حقوقه التي اغتصبها الأضداد، وألقى لك المقاليد بهذا التقليد، وقرب عليك كل غرض بعيد، وناط بك العقد والحل، والولاية والعزل، والمنع والبذل، والرفع والخفض، والبسط والقبض، والإبرام والنقض، والتنبيه والغض، والإنعام والانتقام، وما توجب سياسة إمضاءه من الأحكام تقليداً لا يزال به عقد فخرك نظيماً، وفضل الله عليك وفيك عظيماً {ذلك الفضل من الله وكفى بالله عليماً}.
فتقلد ما قلدك أمير المؤمنين من هذه الرتبة التي تتأخر دونها الأقدام، والغاية التي لا غاية بعدها إلا ما يمليك الله به من الدوام، فلقد تنأولتها بيد في الطاعة غير قصيرة، ومساعٍ في خدمة أمير المؤمنين أيامها على الكافرين غير يسيرة، وبذلت لها ما مهد سبلها، ووصلتها بما وصل بك حبلها، وجمعت من أدواتها ما جمع لك شملها، وقال لك لسان الحق {وكانوا أحق بها وأهلها}.
وتقوى الله سبحانه: فهي وإن كانت لك عادة، وسبيل لاحبٍ إلى السعادة، فإنها أولى الوصايا بأن تتيمن باستفتاحها، وأحق القضايا بأن تبتديء الأمور بصلاحها، فاجعل تقوى الله أمامك، وعامل بها ربك وإمامك، واستنجح بها عواقبك ومباديك، وقاتل بها أضادك وأعاديك، قال الله سبحانه في كتابه المكنون: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغدٍ واتقوا الله إن الله خبيرٌ بما تعملون}.
والعساكر المنصورة فهم الذين غذوا بولاء أمير المؤمنين ونعمه، وربوا في حجور فضله وكرمه، واجتاحهم من لم يحسن لهم النظر، واستباحهم بأيدي من أضر لما أصر، وطالما شهدوا المواقف ففجروها، واصطلوا المخاوف وتولجوها، وقارعوا الكفار مسارعين للأعنة، مقدمين مع الأسنة، مجردين إلى غايتين: إما إلى النصر وإما إلى الجنة، ودبروا الويلات فسددوا وتقلدوا الأعمال فيما تقلدوا، واعتمد أحمرهم وأسودهم، وأقربهم وأبعدهم، وفارسهم وراجلهم، ورامحهم ونابلهم، بتوفير الإقطاع وإدرار النفقات، وتصفية موارد العيش المونقات وأحسن لهم السياسة التي تجعل أيديهم على الطاعة متفقة، وعزائمهم في مناضلة أعداء الدين مستبقة، وأجرهم على العادات في تقليد الويلات، واستكفهم لما هم أهله من مهمات التصرفات، وميز أكابرهم تمييز الناظر بالحقائق، واستنهضهم في الجهاد فهذا المضمار وأنت السابق، وقم في الله تعالى أنت ومن معك فقد رفعت الموانع والعوائق: ليقذف الله بالحق الذي نصره على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق.
والشرع الشريف فأنت كافل قضاته، وهادي دعاته، وهو منار الله تعالى الأرفع، ويده التي تمنع الظلم وتدفع، فقم في حفظ نظامه، وتنفيذ أحكامه، وإقامة حدوده وإمضاء عقوده، وتشييد أساس الدعوة وبنائها، وتمييز آخذي عهودها وأنبائها، قيام من يعول في الأمانة على أهل الديانة، ويستمسك بحقوق الله تعالى بالرعاية والصيانة.
والأموال فهي سلاح العظائم، ومواد العزائم، وعتاد المكارم، وعماد المحارب والمسالم، وأمير المؤمنين يؤمل أن تعود بنظرك عهود النضارة وأن يكون عدلك في البلاد وكيل العمارة.
والرعايا فقد علمت ما نالهم من إجحاف الجبايات وإسراف الجنايات، وتوالى عليهم من ضروب النكايات، فاعمر أوطانهم التي أخربها الجور والأذى، وانف عن مواردهم الكدر والقذى، وأحسن وديعة الله تعالى منهم، وخفف الوطأة ما استطعت عنهم، وبدلهم من بعد خوفهم أمنا، وكف من يعترض في عرض هذا الأدنى.
والجهاد فهو سلطان الله تعالى على أهل العناد، وسطوة الله تعالى التي يمضيها في شر العباد على يد خير العباد، ولك من الغناء فيه مصراً وشاماً، وثبات الجأش كراً وإقداماً، والمصارف التي ضربت فكنت ضارب كماتها، والمواقف التي اشتدت فكنت فارج هبواتها، والتدريب الذي أطلق جدك، والتجريب الذي أورى زندك، ما يغني عن تجديد الوصايا البسيطة، وتأكيد القضايا المحيطة، وما زلت تأخذ بالكفار من اليمين، وتعظم فتوحك في بلاد الشمال فكيف تكون في بلاد اليمين، فاطلب أعداء الله براً وبحراً، وأجلب عليهم سهلاً ووعراً وقسم بينهم الفتكات قتلاً وأسراً، وغارةً وحصراً، قال الله تعالى في كتابه المكنون: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظةً واعلموا أن الله مع المتقين}.
وتوفيق الله تعالى يفتح لك أبواب التدبير، وخبرتك تدلك على مراشد الأمر: {ولا ينبئك مثل خبير} فأنت تبتدع من المحاسن ما لا تحيط به الوصايا، وتخترع من الميامن ما يتعرف بركاته الأولياء والرعايا، والله سبحانه وتعالى يحقق لأمير المؤمنين فيك أفضل المخايل، ويفتح على يديك مستغلق البلاد والمعاقل، ويصيب بسهامك من الأعداء النحور والمقاتل، ويأخذ للإسلام بك ماله عند الشرك من الثارات والطوائل، ولا يضيع عمل عامل، ويجري الأرزاق والآجال بين سيبك الفاضل وحكمه، إن شاء الله تعالى، والسلام عليك ورحمة الله وبركاته.
وعلى نحو منه كتب القاضي الفاضل أيضاً عهد الملك الناصر، صلاح الدين يوسف بن أيوب بالوزارة عن العاضد أيضاً، وهذه نسخته أيضاً: من عبد الله ووليه عبد الله أبي محمد الإمام العاضد لدين الله أمير المؤمنين إلى السيد الأجل على نحو ما تقدم في تقليد عمه أسد الدين شيركوه.
أما بعد فالحمد لله مصرف الأقدار ومشرف الأقدار، ومحصي الأعمال والأعمار، ومبتلي الأخيار والأبرار، وعالم سر الليل وجهر النهار، وجاعل دولة أمير المؤمنين فلكاً تتعاقب فيه أحوال الأقمار: بين انقضاء سرارٍ واستقبال إبدار، وروضاً إذا هوت فيه الدوحات أينعت الفروع سابقة النوار باسقة الثمار، ومنجد دعوته بالفروع الشاهدة بفضل أصولها، والجواهر المستخرجة من أمضى نصولها، والقائم بنصرة دولته فلا تزال حيث يرث الله الأرض ومن عليها قائمةً على أصولها.
والحمد لله الذي اختار لأمير المؤمنين ودله على مكان الاختيار، وأغناه باقتضاب الإلهام عن روية الاختبار، وعضد به الدين الذي ارتضاه وعضد بمن ارتضاه، وأنجز له من وعد السعد ما قضاه فبل أن اقتضاه، ورفع محله عن الخلق فكلهم من مضافٍ إليه غير مضاه، وجعل ملكته عريناً لاعتزازها بالأسد وشبله، ونعمته ميراثاً أولى بها ذوي الأرحام من بني الولاء وأهله، وأظهر في هذه القضية ما أظهره في كل القضايا من فضل أمير المؤمنين وعدله، فأولياؤه كالآيات التي تتسق دراري أفقها المنير، وتنتسق درر عقدها النظيم الدرير: {ما ننسخ من آيةٍ أو ننسها نأت بخيرٍ منها أو مثلها ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير}.
والحمد لله الذي أتم بأمير المؤمنين نعمة الإرشاد، وجعله أولى من للخلق ساد وللحق شاد، وآثره بالمقام الذي لا ينبغي إلا في عصره، وأظهر له من معجزات نصره ما لا يستقل العدد بحصره، وجمع لمن والاه بين رفع قدره ووضع إصره، وجعل الإمامة محفوظةً في عقبه والمعقبات تحفظه بأمره، وأودعه الحكم التي رآه لها أحوط من أودعه، وأطلع من أنوار وجهه الفجر الذي جهل من ظن غير نوره مطلعه، وآتاه ما لم يؤت أحداً، وأمات به غياً وأحيا رشداً، وأقامه للدين عاضداً فأصبح به معتضداً، وحفظ به مقام جده وإن رغم المستكبرون، وأنعم به على أمته أماناً لولاه ما كانوا ينظرون ولا يبصرون، {وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم وما كان الله معذبهم وهم يستغفرون}.
يحمده أمير المؤمنين على ما آتاه من توفيقٍ يذلل له الصعب الجامح، ويدني منه البعيد النازح ويخلف على الدين من صلاحه الخلف الصالح، ويلزم آراءه جدد السعود الواضح، ويريه آيات الإرشاد فإنه نازح قدح القادح، ويسأله أن يصلي على جده محمدٍ الذي أنجى أهل الإيمان ببعثه، وطهر بيديه من رجس الكفر وخبثه، وأجار باتباعه من عنت الشيطان وعبثه، وأوضح جادة التوحيد لكل مشرك الاعتقاد مثلثه، وعلى أبينا أمير المؤمنين علي بن أبي طالب الذي جادلت يده بلسان ذي الفقار، وقسم ولائه وعداوته بين الأتقياء والأشقياء الجنة والنار، وعلى الأئمة من ذريتها الذي أذل الله بعزتهم أهل الإلحاد، وأصفى بما سفكوه من دمائهم موارد الرشاد، وجرت أيديهم وألسنتهم بأقوات القلوب وأرزاق العباد، وسلم ومجد، ووالى وجدد.
وإن الله سبحانه ما أخلى قط دولة أمير المؤمنين التي هي مهبط الهدى ومحط الندى، ومورد الحياة للولي والردى للعدا، من لطف يتلافى الحادثة ويشبعها ويرأبها، ونعمة تبلغ بها النفوس أربها، وموهبة تشد موضع الكلم، وتسد موضع الثلم، وتجلي غمائم الغمم، وتحلي مغانم النعم، وتستوفي شرائط المناجح، وتستدني فوارط المصالح، ولم يكن ينسى الحادثة في السيد الأجل الملك المنصور رضي الله عنه وأرضاه، وجعل الجنة متقلبه ومثواه، التي كادت لها أواخي الملك تتزعزع، ومباني التدبير تتضعضع، إلا ما نظر فيه أمير المؤمنين بنور الله من اصطفائك أيها السيد الجل الملك الناصر: أدام الله قدرتك لأن تقوم بخدمته بعده، وتسد في تقدمة جيوشه مسده، وتقفو في ولائه أثره، ولا تفقد منه إلا أثره، فوازت الفادحة فيه النعمة فيك، حتى تستوفي حظه من أمير المؤمنين بأجر لا يضيع الله فيه عمله، فاستوجب مقعد صدق بما اعتقده من تأدية الأمانة له وحمله، واستحق أن ينضر الله وجهه بما أخلقه الله من جسمه في مواقف الجهاد وبدله، ومضى في ذمام رضا أمير المؤمنين: وهو الذمام الذي لا يقطع الله منه ما أمره أن يصله، واتبع من دعائه بتحف أول ما تلقاه بالروح والريحان، وذخرت له من شفاعته ما عليه معول أهل الإيمان في الأمان، فرعى الله قطعه البيداء إلى أمير المؤمنين وتجشمه الأسفار، ووطأه المواطيء التي تغيظ الكفار، وطلوعه على أبواب أمير المؤمنين طلوع أنوار النهار، وهجرته التي جمعت له أجرين: أجر المهاجرين وأجر الأنصار، وشكر له ذلك المسعى الذي بلغ من الشرك الثار، وبلغ الإسلام الإيثار، وما لقي ربه حتى تعرض للشهادة بين مختلف الصفاح، ومشتجر الرماح، ومفترق الأجسام من الأرواح، وكانت مشاهدته لأمير المؤمنين أجراً فوق الشهادة، ومنةً لله تعالى عليه له لها ما للذين أحسنوا الحسنى وزيادة، وحتى رآك أيها السيد الأجل الملك الناصر أدام الله قدرتك قد أقررت ناظره، وأرغمت مناظره، وشددت سلطانه وسددت مكانه، ورمى بك فأصاب، وسقى بك فصاب، وجمعت ما فيه من أبهة المشيب إلى ما فيك من مضاء الشباب، ولقنت ما أفادته التجارب جملة، وأعانتك المحاسن التي هي فيك جلة، وقلب عليك إسناد الفتكات فتقلبت وأوضح لك مناهج البركات فتقبلت، وسددك سهماً، وجردك شهماً، وانتضاك فارتضاك غرباً، وآثرك على آثر ولده إمامةً في التدبير وحرباً، وكنت في السلم لسانه الآخذ بمجامع القلوب، وفي الحرب سنانه النافذ في مضيق الخطوب، وساقته إذا طلب، وقلب جيشه إذا ثبت وجناحه إذا وثب، ولا عذر لشبل نشأ في حجر أسد، ولا لهلالٍ استملى النور من شمسٍ واستمد.
هذا ولم يكن لك على هذا الإسناد في هذا الحديث، وهذا المسند الجامع من قديم الفخر وحديث وهذا المسند الجامع من قديم الفخر وحديث، لأغنتك غريزةٌ عزيزة وسجية سجية وشيمةٌ وسيمة، وخلائق، فيها ما تحب الخلائق، ونحائز، مثلها حائز، ومحاسن، ماؤها غير آسن ومآثر، جد غير عاثر، ومخافر، غفل منها الأول، ليستأثر بها الآخر، وبراعة لسان، ينسجم قطارها، وشجاعة جنان، تضطرم نارها، وخلالٌ جلال عليك شواهد أنوارها تتوضح ومساعي مساعد لديك كمائم نورها تتفتح، فكيف وقد جمعت لك في المجد بين نفس وأبً وعم ووجب أن أسألك من اصطفاء أمير المؤمنين ماذا حصل ثم على الخلق عم، فيومك واسطةٌ في المجد بين غدك وأمسك، وكل نادٍ من أندية الفخار لك أن تقول فيه وعلى غيرك أن يمسك فبشراك أن أنعم أمير المؤمنين موصولةٌ منكم بوالدٍ وولد، وان شمس ملكه كالشمس أقوى ما كانت في بيت الأسد.
ولما رأى الله تقلب وجه أمير المؤمنين في سمائه ولاه من اختيارك قبلة، وقامت حجته عند الله باستكفائك وزيراً له ووزراً للملة، فناجته مراشد الإلهام، وأضاءت له مقاصد لا تعقلها كل الأفهام، وعزم له على أن قلدك تدبير مملكته الذي اعرقت في إرثه وأغرقت في كسبه، ومهد لك أبعد غايةٍ في الفخر بما يسر لك من قربه، ولقد سبق أمير المؤمنين إلى اختيارك قبل قول لسانه بضمير قلبه، وذكر فيك قول ربه: {والبلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه}. وقلدك لأنك سيف من سيوف الله تعالى يحق به التقلد وله التقليد، واصطفاك على علم بأنك واحدٌ منتظم في معنى العديد، وأحيا في سلطان جيوشه سنة جده الإمام المستنصر بالله في أمير جيوشه الأول وأقامك بعده كما أقام ولده وإنه ليرجو أن تكون افضل من الأفضل، وخرج أمره إليك بأن يوعز إلى ديوان الإنشاء بكتب هذا السجل لك بتقليدك وزارته التي أحلك ربوتها، وأحل لك صهوتها، وحلاك نعمتها، ولك نغمتها، فتقلد وزارة أمير المؤمنين من رتبتها التي تناهت في الإنافة، إلى أن لا رتبة فوقها إلا ما جعله الله تعالى للخلافة، وتبؤ منها صدراً لا تطلع إليه عيون الصدور، واعتقل منها في درجةٍ على مثلها تدور البدور: {واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور} وقل: {الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور}. وباشر مستبشراً، واستوطن متديراً، وابسط يدك فقد فوض إليك أمير المؤمنين بسطاً وقبضاً، وارفع ناظرك فقد أباح لك رفعاً وخفضاً، واثبت على درجات السعادة فقد جعل لحكمك تثبيتاً ودحضاً، واعقد حبى العزمات للمصالح فقد أطلق بأمرك عقداً ونقضاً، وانفذ فيما أهلك له فقد أدى بك نافلة من السياسة وفرضاً، وصرف أمور المملكة فإليك الصرف والتصريف، وثقف أود الأيام فعليك أمانة التهذيب والتثقيف، واسحب ذيول الفخار حيث لاتصل التيجان، واملأ لحظاً من نور الله تعالى حيث تتقي الأبصار لجين الأجفان، إن هذا لهو الفضل المبين فارتبطه بالتقوى التي هي عروة النجاة وذخيرة الحياة والممات، وصفوة ما تلقى آدم من ربه من الكلمات، وخير ما قدمته النفوس لغدها في أمسها، وجادلت به يوم تجادل كل نفسٍ عن نفسها قال الله سبحانه: {ومن أصدق من الله قيلا} {والآخرة خيرٌ لمن اتقى ولا تظلمون فتيلا}. واستتم بالعدل نعم الله عليك، وأحسن كما أحسن الله إليك، وأمر بالمعروف فإنك من أهله، وانه عن المنكر كما كنت تنزهت عن فعله. وأولياء أمير المؤمنين، وأنصاره الميامين، ومن يحف بمقام ملكه من الأمراء المطوقين، والأعيان المعصبين، والأماثل والأجناد أجمعين، فهم أولياؤه حقاً، ومماليكه رقاً، والذين تبوءوا الدار والإيمان سبقاً، وأنصاره غرباً كما أن عسكرك أنصاره شرقاً، فهم وهم يدٌ في الطاعة على من ناواهم، يسعى بذمتهم أدناهم، وتحكم فيهم وأنت عند أمير المؤمنين أعلاهم.
هذا وقد كان السيد الأجل الملك المنصور رضي الله عنه استمطر لهم من إنعام أمير المؤمنين المسامحة بعلقهم، وواسى في هذه المنقبة التي استحق بها حسن الذكر بين طوائفهم وفرقهم، فصنهم من جائحات الاعتراض، وابذل لهم صالحات الأغراض، وارفع دونهم الحجاب، ويسر لهم الأسباب، واستوف منهم عند الحضور إليك غايات الخطاب، وصرفهم في بلاد أمير المؤمنين ولاةً حماة، كما تصرفهم في أوقات الحرب لماةً وكماة، وعرفهم بركة سلطانك واقتد بقلوبهم بزمام إحسانك.
وأما القضاة الدعاة فهم بين كفالتك وهديك، والتصريف على أمرك ونهيك، فاستعمل منهم من أحسن عملاً، فأما بالعنايات فلا.
والجهاد فأنت راضع دره، وناشئه حجره، وظهور الخيل مواطنك، وظلال الجبل مساكنك، وفي ظلمات مشاكله، تجلى محاسنك، وفي أعقاب نوازله، تتلى ميامينك، فشمر له عن ساقٍ من القنا، وخض فيه بحراً من الظبا، واحلل فيه عقدة كلمات الله سبحانه وثيقات الحبى، وأسل الوهاد بدماء العدا وارفع برؤوسهم الربا، حتى يأتي الله بالفتح الذي يرجو أمير المؤمنين أن يكون مذخوراً لأيامك، ومشهوداً به يوم مقامك بين يديه من لسان إمامك.
والأموال فهي زبدة حلب اللطف لا العنف، وجمةٌ يمتريها الرفق لا العسف، وما برحت أجد ذخائر الدول للصفوف، واحد أسلحتها التي تمضي وقد تنبو السيوف، فقدم للبلاد الاستعمار، تقدم لك للاستثمار، وقطرةٌ من عدل تذخر بها من مالٍ بحار.
والرعايا فهم ودائع الله لأمير المؤمنين وودائعه لديك، فاقبض عنهم الأيدي وابسط بالعدل فيهم يديك، وكن بهم رؤوفاً، وعليهم عطوفاً، واجعل الضعيف منهم في الحق قوياً والقوي في الباطل ضعيفاً، ووكل برعايتهم ناظر اجتهادك، واجعل ألسنتهم بالدعاء من سلاحك وقلوبهم بالمحبة من أجنادك، ولو جاز أن يستغني عن الوصية قائمٌ بأمر، أو جالسٌ في صدر، لاستغنيت عنها بفطنتك الزكية، وفطرتك الذكية، ولكنها من أمير المؤمنين ذكرى لك وأنت من المؤمنين، وعرابة بركةٍ فتلق رايتها باليمين، والله تعالى يؤيدك أيها السيد الأجل أدام الله قدرتك بالنصر العزيز، ويقضي لدولة أمير المؤمنين على يديك بالفتح الوجيز، ولأهلها في نظرك بالأمر الحريز، ويمتع دست الملك بحلى مجدك الإبريز، ويقر عيون الأعيان بما يظهر لك في ميدان السعادة من السبق والتبريز، ويمليك من نحلة أنعم أمير المؤمنين بما ملكك إياه ملك التحويز، ويلق بك في المجد أولك، ويحمد فيك العواقب ولك، فاعلم ذلك من أمر أمير المؤمنين ورسمه، واعمل بموجبه وحكمه، إن شاء الله تعالى.
المذهب الثالث: أن يفتتح العهد بخطبة:
وهو ما حكاه في التعريف عن الصاحب فخر الدين إبراهيم بن لقمان فيما كتب به للظاهر بيبرس، وذكر أن لقمان ليس بحجة. ثم قال: على ان الفاضل محيي الدين بن عبد الظاهر قد تبعه فيما كتب به للمنصور قلاوون.
قلت: ليس ابن لقمان هو المبتكر لهذا المذهب، بل كان موجوداً معمولاً به. استعمله كتاب الإنشاء بديوان الخلافة ببغداد قبل ذلك بزمنٍ طويل، وهو منبع الكتابة الذي يصدر عنه الترتيب، وقاعدتها التي يبنى عليها المصطلح. وعليه كتب عهد العادل أبي بكر بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين يوسف من بغداد. وإليه مال ابن الأثير في المثل السائر. وذكر أن الافتتاح هذا ما عهد قد ابتذل بكثرة الاستعمال، وابن لقمان تابعٌ لا متبوع. على أن إنشائه يدل على تقدمه في الكتابة، وهو إن كان ليس بحجة فابن الأثير حجةٌ بهذا الشأن، يرجع إليه ويعمل بقوله، ويؤيده حديث: «كل أمرٍ ذي بالٍ لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أجذم» ولذلك مال أهل العصر إلى اختياره والعمل عليه، إلا أن فيه مخالفةً لما وقع في عهد النبي صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حزم وغيره من عهود الصحابة على ما تقدم ذكره.
وبكل حال فأهل هذا المذهب لا يخرجون فيه عن ضربين: ضرب يعبرون عن الأوامر الواردة في العهد عن الخليفة بقوله: أمره بكذا وأمره بكذا وهي طريقة المتقدمين منهم، وعليها كتب عهد العادل أبي بكر المشار إليه. وضربٍ يعبرون بقولهم أن يفعل كذا وكذا وما يجري هذا المجرى ز وهي طريقة أهل زماننا.
وهذه نسخة العهد المكتوب به من ديوان الخلافة ببغداد على هذه الطريقة، للعادل أبي بكر بن أيوب أخي السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب وهي: الحمد لله الذي اطمأنت القلوب بذكره، ووجب على الخلائق جزيل حمده وشكره، ووسعت كل شيءٍ رحتمه، وظهرت في كل أمرٍ حكمته، ودل على وحدانيته بعجائب ما أحكمه صنعاً وتدبيراً، وخلق كل شيء فقدره تقديراً، ممد الشاكرين بنعمه التي لا تحصى عدداً، وعالم الغيب الذي لا يظهر على غيبه أحداً، لا معقب لأحكامه في الإبرام والنقض، ولا يؤوده حفظ السماوات والأرض، تعالى أن يحيط بحكمه الضمير، وجل أن يبلغ وصفه البيان والتفسير: {ليس كمثله شيءٌ وهو السميع البصير}.
والحمد لله الذي أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً. وابتعثه هادياً للخلق، وأوضح به مناشد الرشد وسبل الحق، واصطفاه من أشرف الأنساب وأعز القبائل، واجتباه لإيضاح البراهين والدلائل، وجعله لديه أعظم الشفعاء واقرب الوسائل، فقذف صلى الله عليه وسلم بالحق على الباطل، وحمل الناس بشريعته الهادية على المحجة البيضاء والسنن العادل، حتى استقام اعوجاج كل زائغ ورجع إلى الحق كل حائد عنه ومائل، وسجد لله كل شيءٍ تتفيأ ظلاله عن اليمين والشمائل، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الكرام الأفاضل، صلاةً مستمرة بالغدوات والأصائل، خصوصاً على عمه وصنو أبيه العباس بن عبد المطلب الذي اشتهرت مناقبه في المجامع والمحافل، ودرت ببركة الاستسقاء به أخلاف السحب الهواطل، وفاز من تنصيص الرسول على عقبه في الخلافة بما لم يفز به أحدٌ من الأوائل.
والحمد لله الذي حاز مواريث النبوة والإمامة، ووفر جزيل الأقسام من الفضل والكرامة، لعبده وخليفته، ووارث نبييه ومحيي شريعته، الذي أحله الله عز وجل من معارج الشرف والجلال في أرفع ذروة، وأعلقه من حسن التوفيق الإلهي بأمتن عصمة وأوثق عروة، واستخرجه من أشرف نجار وعنصر، واختصه بأزكى منحة وأعظم مفخر، ونصبه للمؤمنين علماً، واختاره للمسلمين إماماً وحكماً، وناط به أمر دينه الحنيف، وجعله قائماً بالعدل والإنصاف بين القوي والضعيف، إمام المسلمين، وخليفة رب العالمين، أبي جعفر المنصور المسنتصر بالله أمير المؤمنين، ابن الإمام السعيد التقي، أبي نصر محمد الظاهر بأمر الله، ابن الإمام السعيد أبي محمد المستضيء بأمر الله أمير المؤمنين، صلوات الله عليهم أجمعين، وعلى آبائه الطاهرين، الأئمة المهديين، الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون، ولقوا الله تعالى وهو عنهم راض ٍ وهم عنه راضون.
وبعد فبحسب ما أفاضه الله تعالى على أمير المؤمنين صلوات الله عليه وسلامه من خلافته في الأرض، وفوضه إلى نظره المقدس في الأمور من الإبرام والنقض، وما استخلصه له من حياطة بلاده وعباده، ووكله إلى الشريف نظره ومقدس اجتهاده، لا يزال صلوات الله عليه يكلأ العباد بعين الرعاية، ويسلك بهم في المصالح العامة والخاصة مذاهب الرشد وسبل الهداية، وينشر عليهم جناحي عدله وإحسانه، وينعم لهم النظر في ارتياد الأمناء والصلحاء من خلصاء أكفائه وأعوانه، متخيراً لاسترعاء من استحمد بمشكور المساعي، وتعرف إليه في سياسة الرعايا بجميل الأسباب والدواعي، وسلك في مفترض الطاعة الواجبة على الخلائق قصد السبيل، وعلم منه حسن الاضطلاع في مصالح المسلمين بالعبء الثقيل، والله عز وجل يؤيد آراء أمير المؤمنين صلوات الله عليه بالتأييد والتسديد، ويمده أبداً من أقسام التوفيق الإلهي بالموفور والمزيد، ويقرن عزائمه الشريفة باليمن والنجاح، ويسني له فيما يأتي ويذر أسباب الخير والصلاح، وما توفيق أمير المؤمنين إلا بالله، عليه يتوكل وإليه ينيب.
ولما وفق الله تعالى نصير الدين محمد بن سيف الدين أبي بكر بن أيوب من الطاعة المشهورة والخدم المشكورة، والحظوة في جهاد أعداء الدين بالمساعي الصالحة، والفوز من المراضي الشريفة الإمامية أجلها الله تعالى بالمغانم الجزيلة والصفقة الرابحة، لما وصل فيه سالف شريف الاختصاص بآنفه، وشفع تالده في تحصيل مأثور الاستخلاص بطارفه، واستوجب بسلوكه في الطاعة المفروضة مزيد الإكرام والتفضيل، وضرع في الإنعام عليه بمنشور شريف إماميٍ يسلك في اتباعه هداه والعمل بمراشد سواء السراط وقصد السبيل اقتضت الآراء الشريفة المقدسة زادها الله تعالى جلالاً متألق الأنوار، وقدساً يتساوى في تعظيمه من هو مستخفٍ بالليل وساربٌ بالنهار الإيعاز بإجابته إلى ما وجه أمله إلى الإنافة فيه به إليه، والجذب بضبعيه إلى ذروة الاجتباء الذي تظهر أشعة أنواره الباهرة عليه، فقلده على خيرة الله تعالى الزعامة والغلات، وأعمال الحرب والمعاون والأحداث والخراج والضياع والصدقات، والجوالي وسائر وجوه الجبايات، والعرض والعطاء، والنفقة في الأولياء، والمظالم والحسبة في بلاده، وما يفتتحه وما يستولي عليه من بلاد الفرنج الملاحين، وبلاد من تبرز إليه الأوامر الشريفة بقصده من الشاذين عن الإجماع المنعقد من المسلمين، ومن يتعدى حدود الله تعالى بمخالفة من يصل من الأعمال الصالحات بولائه المفروض على الخلائق مقبولة، وطاعته ضاعف الله جلاله بطاعته وطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم موصولة، حيث قال عز من قال: {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم}. واعتمد صلوات الله عليه وسلامه في ذلك على حسن نظره ومدد رعايته، وألقى مقاليد التفويض إلى وفور اجتهاده وكمال سياسته، وخصه من هذا الإنعام الجزيل بما يبقى له على تعاقب الدهر واستمراره، ويخلد له على ممر الزمان حسن ذكره وجزيل فخاره، وحباه بتقليد يوطد له قواعد الممالك، ويفتح بإقليده رتاج الأبواب والمسالك، ويفيد قاعدته في بلاده زيادة تقريرٍ وتمهيد، ويطير به صيته في كل قريب وبعيد، ووسمه بالملك الأجل، السيد، الكامل، المجاهد، المرابط، نصير الدين، ركن الإسلام، أثير الأنام، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين غازي بك محمد، بن أبي بكر، بن أيوب، معين أمير المؤمنين، رعايةً لسوابق خدمه وخدم أسلافه وآبائه، عن وفور اجتبائه، وكمال ازدلافه، وإنافةً من ذروة القرب إلى محلٍ كريم، واختصاصاً له بالإحسان الذي لا يلقاه إلا منهو كما قال الله تعالى: {ذو حظ عظيم}، وثوقاً بصحة ديانته التي يسلك فيها سواء سبيله، واستنامةً إلى أمانته في الخدمة التي ينصح فيها الله تعالى ولرسوله، وركوناً إلى كون الإنعام عليه موضوعاً بحمد الله تعالى في أحسن موضع، واقعاً به لديه في خير مستقر ومستودع.
وأمير المؤمنين صلوات الله عليه لا زالت الخيرة موصولةً بآرائه، والتأييد الإلهي مقروناً بإنقاذه وإمضائه يستمد من الله عز وجل حسن الإعانة في اصطفائه الذي اقتضاه نظره الشريف واعتماده، وأدى إليه ارتياده المقدس الإمامي واجتهاده، وحسب أمير المؤمنين الله ونعم الوكيل.
أمره بتقوى الله تعالى التي هي الجنة الواقية، والنعمة الباقية، والملجأ المنيع، والعماد الرفيع والذخيرة النافعة في السر والنجوى، والجذوة المقتبسة من قوله سبحانه: {وتزودوا فإن خير الزاد التقوى} وأن يدرع بشعارها، في جميع الأقوال والأفعال، ويهتدي بأنوارها، في مشكلات الأمور والأحوال، وأن يعمل بها سراً وجهراً، ويشرح للقيام بحدودها الواجبة صدراً قال الله تعالى: {ومن يتق الله يكفر عنه سيئاته ويعظم له أجراً}.
وأمره بتلاوة كتاب لله متدبراً غوامض عجائبه، سالكاً سبيل الرشاد والهداية في العمل به، وان يجعله مثلاً يتبعه ويقتفيه، ودليلاً يهتدي بمراشده الواضحة في أوامره ونواهيه، فإنه الثقل الأعظم، وسبب الله المحكم، والنور الذي يهدي به إلى التي هي أقوم، ضرب الله تعالى فيه لعباده جوامع الأمثال، وبين لهم بهداه الرشد والضلال، وفرق بدلائله الواضحة بين الحرام والحلال، فقال عز من قائل: {هذا بيانٌ للناس وهدىً وموعظةٌ للمتقين}. وقال تعالى: {كتابٌ أنزلناه إليك مباركٌ ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب}.
وأمره بالمحافظة على مفروض الصلوات، والدخول فيها على أكمل هيئة من قوانين الخشوع والإخبات، وأن يكون نظره في موضع سجوده من الأرض، وان يمثل لنفسه في ذلك موقفه بين يدي الله تعالى يوم العرض، قال الله تعالى: {قد أفلح المؤمنون * الذين هم في صلاتهم خاشعون}. وقال الله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}. وأن لا يشتغل بشاغل عن أداء فروضها الواجبة، ولا يلهوا بسبٍ عن إقامة سننها الراتبة، فإنها عماد الدين الذي نمت أعاليه، ومهاد الشرع الذي تمت قواعده ومبانيه، قال الله تعالى: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين}، وقال سبحانه: {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر}.
وأمره أن يسعى إلى الصلوات الجمع والأعياد، ويقوم في ذلك بما فرضه الله تعالى عليه وعلى العباد، وأن يتوجه إلى الجوامع والمساجد متواضعاً، ويبرز إلى المصليات الضاحية في الأعياد خاشعاً، وأن يحافظ في تشييد قواعد الإسلام على الواجب والمندوب، ويعظم باعتماد ذلك شعائر الله التي هي من تقوى القلوب، وأن يشمل بوافر اهتمامه واعتنائه، وكمال نظره وإرعائه، بيوت الله التي هي محال البركات، ومواطن العبادات، والمساجد التي تأكد في تعظيمها وإجلالها حكمه، والبيوت التي أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه، وأن يرتب لها من الخدم من يتبتل لإزالة أدناسها، ويتصدى لإذكاء مصابيحها في الظلام وإيناسها، ويقوم لها بما تحتاج إليه من أساب الصلاح والعمارات، ويحضر غليها ما يليق من الفرش والكسوات.
وأمره باتباع سنة النبي صلى الله عليه وسلم التي أوضح جددها، عليه السلام أودها، وان يعتمد فيها على الأسانيد التي نقلها الثقات، والأحاديث التي صحت بالطرق السليمة والروايات وأن يقتدي بما جاءت به من مكارم الخلاق التي ندب صلى الله عليه وسلم إلى التمسك بسببها، ورغب أمته في الأخذ بها والعمل بأدبها، قال الله تعالى: {وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا}. وقال سبحانه وتعالى: {من يطع الرسول فقد أطاع الله}.
وأمره بمجالسة أهل العلم والدين، وأولي الإخلاص في طاعة الله تعالى واليقين، واستشارتهم في عوارض الشك والالتباس، والعمل بآرائهم في التمثيل والقياس، فإن الاستشارة عين الهداية، وأمن من الضلالة والغواية، وبها تلقح عقم الأفهام والألباب، ويقتدح زناد الرشد والصواب، قال الله تعالى في الإرشاد إلى فضلها، والأمر في التمسك بحبلها: {وشاورهم في الأمر}.
وأمره بمراعاة أحوال الجند والعسكر في ثغوره، وأن يشملهم بحسن نظره وجميل تدبيره، مستصلحاً نياتهم بإدامة التلطف والتعهد، مستوضحاً أحوالهم بمواصلة التفحص والتفقد، وأن يسوسهم سياسةً تبعثهم على سلوك المنهج السليم، ويهديهم في انتظامها واتساقها إلى السراط المستقيم، ويحملهم على القيام بشرائط الخدم، والتمسك منها بأقوى الأسباب وأمتن العصم، ويدعوهم إلى مصلحة التواصل والائتلاف، ويصدهم عن موجبات التخاذل والاختلاف، وأن يعتمد فيهم شرائط الحزم في الإعطاء والمنع، وما تقتضيه مصلحة أحوالهم من أسباب الخفض والرفع، وان يثبت المحسن على إحسانه، ويسبل على المسيء ما وسعه العفو واحتمله المر ذيل صفحه وامتنانه، وأن يأخذ برأي ذوي التجارب منهم والحنكة، ويجتني بمشاورتهم ثمر الشركة، إذ في ذلك أمنٌ من خطإ الانفراد، وتزحزح عن مقام الزيغ والاستبداد.
وأمره بالتبتل لما يليه من البلاد، ويتصل بنواحيه من ثغور أولي الشرك والعناد، وأن يصرف مجامع الالتفات إليها، ويخصها بوفور الاهتمام بها والتطلع عليها، وأن يشمل ما ببلاده من الحصون والمعاقل بالإحكام والإتقان، وينتهي في أسباب مصالحها إلى غاية الوسع ونهاية الإمكان، وأن يشحنها بالميرة الكثيرة والذخائر، ويمدها من الأسلحة والآلات بالعدد المستصلح الوافر، وأن يتخير لحراستها من يختاره من الأمناء التقاة، ولسدها من ينتخبه من الشجعان الكماة، وأن يؤكد عليهم في استعمال أسباب الحفظة والاستظهار، ويوقظهم للاحتراس من غوائل الغفلة والاغترار، وان يكون المشار إليهم ممن ربوا في ممارسة الحروب على مكافحة الشدائد، وتدربوا في نصب الحبائل للمشركين والأخذ عليهم بالمراصد، وأن يعتمد هذا القبيل بمواصلة المدد، وكثرة العدد، والتوسع في النفقة والعطاء، والعمل معهم بما يقتضيه حالهم وتفاوتهم في التقصير والغناء، إذ في ذلك حسمٌ لمادة الأطماع في بلاد الإسلام، وردٌ لكيد المعاندين من عبدة الأصنام، فمعلومٌ أن هذا الغرض أولى ما وجهت غلي العنايات وصرفت، وأحق ما قصرت عليه الهمم ووقفت، فإن الله تعالى جعله من أهم الفروض التي كرم فيها القيام بحقه، وأكبر الواجبات التي كتب العمل بها على خلقه، فقال سبحانه وتعالى هادياً في ذلك إلى سبيل الرشاد، ومحرضاً لعباده على قيامهم بفروض الجهاد: {ذلك بأنهم لا يصيبهم ظمأٌ ولا نصبٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله ولا يطئون موطئاً يغيظ الكفار ولا ينالون من عدوٍ نيلاً إلا كتب لهم به عملٌ صالحٌ إن الله لا يضيع أجر المحسنين * ولا ينفقون نفقةً صغيرةً ولا كبيرةً ولا يقطعون وادياً إلا كتب لهم ليجزيهم الله أحسن ما كانوا يعملون}. وقال تعالى: {فاقتلوهم حيث ثقفتموهم}. وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «من نزل منزلاً يخيف فيه المشركين ويخيفونه، كان له كأجر ساجدٍ لا يرفع رأسه إلى يوم القيامة، وأجر قائمٍ لا يقعد إلى يوم القيامة، وأجر صائم لا يفطر». وقال عليه السلام: «غدوةٌ في سبيل الله أو روحةٌ خيرٌ مما طلعت عليه الشمس». هذا قوله صلى الله عليه وسلم في الحق من سمع هذه المقالة فوقف لديها، فكيف بمن كان كما قال عليه السلام: «ألا أخبركم بخير الناس» ممسكٌ بعنان فرسه كلما سمع هيعةً طار إليها.
وأمره باقتفاء أوامر الله تعالى في رعاياه، والاهتداء إلى رعاية العدل والإنصاف والإحسان بمراشده الواضحة ووصاياه، وأن يسلك في السياسة سبل الصلاح، ويشملهم بلين الكنف وخفض الجناح، ويمد ظل رعايته على مسلمهم ومعاهدهم، ويزحزح الأقذاء والشوائب عن مناهلهم في العدل ومواردهم، وينظر في مصالحهم نظراً يساوي فيه بين الضعيف والقوي، ويقوم بأودهم قياماً يهتدي به ويهديهم فيه إلى الصراط السوي، قال الله تعالى: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}.
وأمره باعتبار أسباب الاستظهار والأمنة، واستقصاء الطاعة المستطاعة والقدرة الممكنة في المساعدة على قضاء تفث حجاج بيت الله الحرام، وزوار نبيه عليه افضل الصلاة والسلام وأن يمدهم بالإعانة في ذلك على تحقيق الرجاء وبلوغ المرام، ويحرسهم من التخطف والأذى في حالتي الظعن والمقام، فإن الحج أحد أركان الدين المشيدة، وفروضه الواجبة المؤكدة، قال الله تعالى: {ولله على الناس حج البيت}.
وأمره بتقوية أيدي العاملين بحكم الشرع في الرعايا، وتنفيذ ما يصدر عنهم من الأحكام والقضايا، والعمل بأقوالهم فيما يثبت لذوي الاستحقاق، والشد على أيديهم فيما يرونه من المنع والإطلاق، وأنه متى تأخر أحد الخصمين عن إجابة داعي الحكم، أو تقاعس في ذلك لما يلزم من الأداء والعدم، جذبه بعنان القسر إلى مجلس الشرع، واضطره بقوة الإنصاف غلى الأداء بعد المنع، وأن يتوخى عمال الوقوف التي تقرب المتقربون بها، واستمسكوا في ثواب الله بمتين حبلها، وأن يمدهم بجميل المعاونة والمساعدة، وحسن الموازرة والمعاضدة في الأسباب التي تؤذن بالعمارة والاستنماء، وتعود عليها بالمصلحة والاستخلاص والاستيفاء قال الله تعالى: {وتعاونوا على البر والتقوى}.
وأمره أن يتخير من أولى الكفاءة والنزاهة من يستخلصه للخدم والأعمال، والقيام بالواجب: من أداء الأمانة والحراسة والتمييز لبيت المال، وأن يكونوا من ذوي الاضطلاع بشرائط الخدم المعنية وأمورها، والمتدين إلى مسالك صلاحها وتدبيرها، وأن يتقدم إليهم بأخذ الحقوق من وجوهها المتيقنة، وجبايتها في أوقاتها المعينة، إذ ذاك من مصالح الجند ووفورالاستظهار وموجبات قوة الشوكة بكثير الأعوان والأنصار، وأسباب الحفظة التي تحمى بها البلاد والأمصار، ويأمرهم بالجري في الطسوق والشروط على النمط المعتاد، والقيام في مصالح الأعمال على أقدام الجد والاجتهاد، وإلى العاملين على الصدقات بأخذ الزكوات على مشروع السنن المهيع، وقصد الصراط المتبع، من غير عدول من ذلك عن المنهاج الشرعي، أو تساهل في تبديل حكمها المفروض وقانونها المرعي، فإذا أخذت من أربابها، الذين يطهرون ويزكون بها، كان العمل في صرفها إلى مستحقها بحكم الشريعة النبوية وموجبها، وإلى جباة الجزية من أهل الذمة بالمطالبة بأدائها في أول سنة، واستفيائها منهم على حسب أحوالهم بحكم العادة في الثروة والمسكنة، وإجراءً في ذلك على حكم الاستمرار والانتظام، ومحافظةً على عظيم شعائر الإسلام.
وأمره أن يتطلع على أحوال كل من يستعمله في أمر من الأمور، ويصرفه في مصلحةٍ من مصالح الجمهور، تطلهاً يقتضي الوقوف على حقائق أمانتهم، وموجب تهذيبهم من حركاتهم وسكناتهم، ذهاباً من النصح لله تعالى في بريته، وعملاً فيه بقول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤولٌ عن رعيته».
وأمره أن يستصلح من ذوي الاضطلاع والغناء، من يترتب العرض والعطاء، والنفقة في الأولياء، وأن يكونوا من المشهورين بالحزم والبصيرة، والموسومين في المناصحة بإخلاص الطوية وإصفاء السريرة، حالين من الأمانة والصون بما يزين، ناكبين عن مظان الشبه والطمع الذي يصم ويشين، وأن يأمرهم باتباع عادات أمثالهم في ضبط أسماء الرجال، وتحلية الأشخاص والأشكال، واعتبار شيات الخيول وإثبات أعدادها، وتحريض الجند على تخيرها واقتناء جيادها، وبذل الجهد في قيامهم من الكراع واليزك والسلاح بما يلزمهم، والعمل بقوله تعالى: {وأعدوا لهم ما استطعتم من قوةٍ ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم}. فإذا نطقت جرائد الجند المذكورين بما أثبت لديهم، وحقق الاعتبار والعيان قيامهم بما وجب عليهم، أطلقت لهم المعايش والأرزاق بحسب إقراراتهم، وأوصلت إليهم بمقتضى واجباتهم واستحقاقاتهم: فإن هذا الحال أصل حراسة البلاد والعباد، وقيام الأمر بما أوجبه الله تعالى من الاستعداد بفرض الجهاد، قال الله تعالى: {والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين}.
وأمره بتفويض أمر الحسبة إلى من يكون بأمرها مضطلعاً، وللسنة النبوية في إقامة حدودها متبعاً، فيعتمد في الكشف عن أحوال العامة في تصرفاتها الواجب، ويسلك في التطلع إلى معاملاتهم السبيل الواضح والسنن اللاحب،......... في الأسواق لاعتبار المكاييل والموازين ويقيمه في مؤاخذة المطففين وتأديبهم بما تقتضي شريعة الدين، ويحذرهم في تعدي حدود الإنصاف شدة نكاله، ويقابل المستحق المؤاخذة بما يرتدع به الجمع الكثير من أمثاله، قال الله تعالى: {أوفوا الكيل ولا تكونوا من المخسرين * وزنوا بالقسطاس المستقيم * ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين}. وقال سبحانه: {ويلٌ للمطففين * الذين إذا اكتالوا على الناس يستوفون * وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون * ألا يظن أولئك أنهم مبعوثون * ليومٍ عظيمٍ * يوم يقوم الناس لرب العالمين}.
فليتول الملك السيد الكامل، المجاهد، المرابط، نصير الدين، ركن الإسلام أثير الأنام، جلال الدولة، فخر الملة، عز الأمة، سند الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، أمير المجاهدين، غازي بك معين أمير المؤمنين ما قلده عبد الله وخليفته في أرضه، القائم له بحقه الواجب وفرضه، أبو جعفر المنصور المستنصر بالله أمير المؤمنين، تقليد مطمئنٍ بالإيمان، وينصح لله ولرسوله ولخليفته صلوات الله عليه في السر والإعلان، وليشرح بما فوض إليه من هذه الأمور صدراً، وليقم بالواجب عليه من شكر هذا الإنعام الجزيل سراً وجهراً، وليعمل بهذه الوصايا الشريفة الإمامية، وليقف آثار مراشدها المقدسة النبوية، وليظهر من أثر الجد في هذا الأمر والاجتهاد، وتحقيق النظر الجميل لله والإرشاد، ما يكون دليلاً على تأييد الرأي الأشرف المقدس أجله الله تعالى في اصطناعه واستكفائه، وإصابة مواقع النجح والرشد في التفويض إلى حسن قيامه وكمال اعتنائه، فليقدر النعمة في هذه الحال حق قدرها، وليمتر بأداء الواجب بما غلب عليه من جزيل شكر غزير درها، وليطالع مع الأوقات بما يشكل عليه من الأمور الغوامض، ولينه إلى العلوم الشريفة المقدسة أجلها الله تعالى ما يلتبس عليه من الشكوك والغوامض، ليرد عليه من الأمثلة ما يوضح له وجه الصواب في الأمور، ويستمد من المراشد الشريفة التي هي شفاءٌ لما في الصدور بما يكون ورده عليه وتتابعه إليه نوراً على نور، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخة العهد الذي كتب به الصاحب فخر الدين: إبراهيم بن لقمان، للظاهر بيبرس، التي أنكر عليه القاضي شهاب الدين بن فضل الله في التعريف ابتداءها بخطبة، وهي: الحمد لله الذي أضفى على الإسلام ملابس الشرف، وأظهر درره وكانت خافيةً بما استحكم عليها من الصدف، وشيد ما وهى من علائه حتى أنسى ذكر ما سلف، وقيض لنصره ملوكاً اتفقت على طاعتهم من اختلف.
أحمده على نعمه التي رتعت الأعين منها في الروض الأنف، وألطافه التي وقفت الشكر عليها فليس له عنها منصرف، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً توجب من المخاوف أمنا، وتسهل من الأمور ما كان حزنا، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي جبر من الدين وهنا، وصفيه الذي أظهر من المكارم فنوناً لا فنا، صلى الله عليه وعلى آله الذين أضحت مناقبهم لا تفنى، وأصحابه الذين أحسنوا في الدين فاستحقوا الزيادة من الحسنى.
وبعد، فإن أولى الأولياء بتقديم ذكره، وأحقهم أن يصبح القلم ساجداً وراكعاً في تسطير مناقبه وبره، من سعى فأضحى بسعيه الجميل متقدماً، ودعا إلى طاعته فأجاب من كان منجداً ومتهماً، وما بدت يدً من المكرمات إلا كان لها زنداً ومعصماً، ولا استباح بسيفه حمى ووغىً إلا أضرمه ناراً وأجراه دماً.
ولما كانت هذه المناقب الشريفة مختصةً بالمقام العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، الظاهري، الركني، شرفه الله تعالى وأعلاه، ذكر الديوان العزيز، النبوي، الإمامي، المستنصري أعز الله تعالى سلطانه تنويهاً بشريف قدره، واعترافاً بصنعه الذي تنفد العبارة المسهبة ولا تقوم بشكره، وكيف لا؟ وقد أقام الدولة العباسية بعد أن أقعدتها زمانة الزمان، وأذهبت ما كان لها من محاسن وإحسان، واستعتب دهرها المسيء فأعتب، وأرضى عنها زمانها وقد كان صال عليها صولة مغضب، فأعاده لها سلماً بعد أن كان عليها حرباً، وصرف اهتمامه فرجع كل متضايقٍ من أمورها واسعاً رحباً، ومنح أمير المؤمنين عند القدوم عليه حنواً وعطفاً، وأظهر له من الولاء رغبةً في ثواب الله ما لا يخفى، وأبدى من الاهتمام بالبيعة أمراً لو رامه غيره لامتنع عليه، ولو تمسك بحبله متمسكٌ لانقطع به قبل الوصول إليه، لكن الله ادخر هذه الحسنة ليثقل بها في الميزان ثوابه، ويخفف بها يوم القيامة حسابه،، والسعيد من خفف حسابه، فهذه منقبةٌ أبى لله إلا أن يخلدها في صحيفة صنعه، وتكرمةٌ قضت لهذا البيت الشريف بجمعه بعد أن حصل الإياس من جمعه، وأمير المؤمنين يشكر لك هذه الصنائع، ويعرف أنه لولا اهتمامك لاتسع الخرق على الراقع، وقد قلدك الديار المصرية والبلاد الشامية، والديار البكرية والحجازية واليمنية والفراتية، وما يتجدد من الفتوحات غوراً ونجداً، وفوض أمر جندها ورعاياها إليك حين أصبحت في المكارم فرداً، ولم يجعل منها بلداً من البلاد ولا حصناً من الحصون مستثنى، ولا جهةً من الجهات تعدي الأعلى ولا الأدنى.
فلاحظ أمور الأمة فقد أصبحت لها حاملاً، وخلص نفسك من التبعات اليم ففي غدٍ تكون مسؤولاً لا سائلاً، ودع الاغترار بالدنيا فما نال أحد منها طائلاً، وما رآها أحدٌ بعين الحق إلا رآها خيالاً زائلاً، فالسعيد من قطع آماله الموصولة، وقدم لنفسه زاد التقوى فتقدمه غير التقوى مردودةٌ لا مقبولة، وابسط يدك بالإحسان والعدل فقد أمر الله بالعدل والإحسان في مواضع من القرآن، وكفر به عن المرء ذنوباً وآثاماً، وجعل يوماً واحداً فيه كعبادة العابد ستين عاماً، وما سلك أحدٌ سبيل العدل والإحسان، إلا واجتنيت ثماره من أفنان، وتراجع الأمر فيه بعد تداعي أركانه وهو مشيد الأركان، وتحصن به من حوادث الزمان، وكانت أيامه في الأيام أبهى من الأعياد، وأحسن في العيون من الغرر في أوجه الجياد، وأحلى من العقود إذا حلي بها عطل الأجياد.
وهذه الأقاليم المنوطة بك تحتاج إلى نوابٍ وحكام، وأصحاب رأي من أصحاب السيوف والأقلام، فإذا استعنت بأحد منهم في أمرك فنقب عليك تنقيباً، واجعل عليه في تصرفاته رقيباً، وسل عن أحوله ففي القيامة تكون عنه مسؤولاً وبما أجرم مطلوباً، ولا تول منهم إلا من تكون مساعيه حسناتٍ لك لا ذنوباً، وأمرهم بالأناة في الأمور والرفق، ومخالفة الهوى إذا ظهرت أدلة الحق، وأن يقابلوا الضعفاء في حوائجهم بالثغر الباسم والوجه الطلق، وأن لا يعاملوا أحداً على الإحسان والإساءة إلا بما يستحق، وأن يكونوا لمن تحت أيديهم من الرعية إخواناً، وأن يوسعوهم براً وإحساناً، وأن لا يستحلوا حرماتهم إذا استحل الزمان لهم حرماناً، فالمسلم أخو المسلم ولو كان عليه أميراً وسلطاناً، والسعيد من نسج ولايته في الخير على منواله، واستسن بسنته في تصرفاته وأحواله، وتحمل عنه ما تعجز قدرته عن حمل أثقاله.
ومما يؤمرون به أن يمحى ما أحدث من سيء السنن، وجدد من المظالم التي هي من أعظم المحن، وأن يشترى بإبطالها المحامد رخيصةً بأغلى ثمن، ومهما جبي منها من الأموال فإنما هي باقيةٌ في الذمم حاصلة، وأجياد الخزائن إن أضحت بها حاليةً فإنما هي على الحقيقة منها عاطلة، وهل أشقى ممن احتقب إثماً، واكتسب بالمساعي الذميمة ذماً، وجعل السواد الأعظم له يوم القيامة خصماً، وتحمل ظلم الناس فيما صدر عنه من أعماله {وقد خاب من حمل ظلماً}.
وحقيق بالمقام الشريف المولوي، السلطاني، الملكي، الظاهري، الركني أن تكون ظلامات الأنام مردودة بعدله، وطاعته تخفف ثقلاً لا طاقة لهم بحمله، فقد أضحى على الإحسان قادراً وصنعت له الأيام ما لم تصنعه لمن تقدم من الملوك وإن جاء آخراً، فالحمد لله على أن وصل إلى جنابك إمام هدىً يوجب لك مزية التقدم، وينبه الخلائق على ما خصك الله به من الفضل العظيم، وهذه أمور يجب أن تلاحظ وترعى، ويوالي عليها حمد الله فإن الحمد يجب عليها عقلاً وشرعاً، وقد تبين لك أنك صرت في الأمور أصلاً وصار غيرك فرعاً.
ومما يجب أيضاً تقديم ذكره أمر الجهاد الذي أضحى على الأمة فرضاً، وهو العمل الذي يرجع به مسود الصحائف مبيضاً، وقد وعد الله المجاهدين بالأجر العظيم، والدوافع لهم عنده المقام الكريم، وخصهم بالجنة التي لا لغو فيها ولا تأثيم، وقد تقدمت لك في الجهاد يدٌ بيضاء أسرعت في سواد الحساد، وعرفت منك عزمةً وهي أمضى مما تجنه ضمائر الأغماد واشتهرن لك مواقف في القتال وهي أشهر وأشهى إلى القلوب من الأعياد، وبك صان الله حمى الإسلام أن يبتذل، وبعزيمتك حفظ على المسلمين نظام هذه الدول، وسيفك أثر في قلوب الكافرين قروحاً لا تندمل، وبك يرجى أن يرجع مقر الخلافة إلى ما كان عليه في الأيام الأول فأيقظ لنصرة الإسلام جفناً ما كان غافياً ولا هاجعاً، وكن في مجاهدة أعداء الله إماماً متبوعاً لا تابعاً، وأيد كلمة التوحيد فما تجد في تأييدها إلا مطيعاً سامعاً، ولا تخل الثغور من اهتمامٍ بأمرها تبسم له الثغور، واحتفالٍ يبدل ما دجا من ظلماتها بالنور، فهذه حصونٌ بها يحصل الانتفاع، وعلى العدو داعية افتراق لا اجتماع، وأولاها بالاهتمام ما كان البحر له مجاوراً، والعدو إليه ملتفتاً ناظراً، ولاسيما ثغور الديار المصرية فغن العدو وصل إليها رابحاً وراح خاسراً، واستأصلهم الله فيها حتى ما أقال منهم عاثراً، وكذلك الأسطول الذي ترى خيله كالأهلة، وركائبه سابقةً بغير سائقٍ مستقلة، وهو أخو الجيش السليماني، فإن ذاك غدت الريح له حاملة، وهذا تكفلت بحمله الرياح السابلة، وإذا لحظها الطرف جاريةً في البحر كانت كالأعلام، وإذا شبهها قال: هذه ليالٍ تقلع بالأيام، وقد سنى الله لك من السعادة كل مطلب، وآتاك من أصالة الرأي الذي يريك المغيب، وبسط بعد القبض منك الأمل، ونشط بالسعادة ما كان من كسل، وهداك إلى منهج الحق ومازلت مهتدياً إليها، وألزمك المراشد فلا تحتاج إلى تنبيه عليها، والله تعالى يمد بأسباب نصره، ويوزعك شكر نعمه فإن النعمة تستتم بشكره، إن شاء الله تعالى.
وهذه نسخته عهد كتب بها القاضي محيي الدين بن عبد الظاهر، للسلطان الملك المنصور قلاوون، عن الخليفة الأمام أبي العباس أحمد الحاكم بأمر الله المتقدم ذكره على هذه الطريقة، وهي: الحمد لله الذي جعل آية السيف ناسخةً لكثيرٍ من الآيات، وفاسخةً لعقود أولي الشك والشبهات، الذي رفع بعض الخلق على بعضٍ درجات، وأهل لأمور البلاد والعباد من جاءت خوارق تملكه بالذي إن لم يكن من المعجزات فمن الكرامات.
ثم الحمد لله الذي جعل الخلافة العباسية بعد القطوب حسنة الابتسام، وبعد الشحوب جميلة الاتسام، وبعد التشريد كل دار إسلام لها أعظم من دار السلام.
والحمد لله على أن أشهدها مصارع أعدائها، وأحمد لها عواقب إعادة نصرها وإبدائها، ورد تشتيتها بعد أن ظن كل أحد أن شعارها الأسود ما بقي منه إلا ما صانته العيون في جفونها والقلوب في سويدائها، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً يتلذذ بذكرها اللسان، وتتعطر بنفحاتها الأفواه والأردان، وتتلقاها ملائكة القبول فترفعها إلى أعلى مكان، ونصلي على سيدنا محمدٍ الذي أكرمنا الله به وشرف لنا الأنساب، وأعزنا به حتى نزل فينا محكم الكتاب، صلى الله عليه وعلى آله الذين انجاب الدين منهم عن أنجاب، ورضي الله عن صحابته الذين هم خير صحاب، صلاةً ورضواناً يوفى قائلها أجره يوم الحساب من الكثرة بغير حساب يوم الحساب.
وبعد حمد الله على أن أحمد عواقب الأمور، وأظهر للإسلام سلطاناً اشتدت به للأمة الظهور وشفيت الصدور، وأقام الخلافة العباسية في هذا الزمن بالمنصور كما أقامها فيما مضى بالمنصور، واختار لإعلان دولتها من يحيي معالمها بعد العفاء ورسومها بعد الدثور، وجمع لها الآن ما كان جمح عليها فيما قبل من خلاف كل ناجم، ومنحها ما كانت تبشر به صحف الملاحم، وأنفذ كلمتها في ممالك الدولة العلوية بخير سيفٍ مشحوذٍ ماضي العزائم، ومازج بين طاعتها في القلوب وذكرها في الألسنة وكيف لا والمنصور هو الحاكم؟ وأخرج لحياطة الأمة المحمدية ملكاً تقسم البركات عن يمينه، وتقسم السعادة بنور جبينه، وتقهر الأعداء بفتكاته، وتمهر عقائل المعاقل بأصغر راياته، ذو السعد الذي ما زال نوره يشف حتى ظهر، ومعجزه يرف إلى أن بهر، وجوهره ينتقل من جيد إلى جيد حتى علا الجبين، وسره يكمن في قلبٍ بعد قلبٍ حتى علم والحمد لله نبأ تمكينه في الأرض بعد حين، فاختاره الله على علم، واصطفاه من بين عباده بما جبله الله عليه من كرم وشجاعةٍ وحلم، وأتى به الأمة المحمدية في وقت الاحتياج عوناً وفي إبان الاستمطار غيثاً، وفي حين عيث الأشبال في غير الافتراس ليثاً، فوجب على من له في أعناق الأمة المحمدية مبايعة رضوان، وعند أيمانهم مصافحة أيمان، ومن وجبت له البيعة باستحقاقه لميراث منصب النبوة، ومن تصح به كل ولايةٍ شرعية يؤخذ كتابها منه بقوة، ومن هو خليفة الزمان والعصر، ومن بدعواته تنزل بالنصر عليكم معاشر الإسلام ملائكة النصر، ومن نسبه بنسب نبيكم صلى الله عليه وسلم متشج، وحسبه بحسبه ممتزج، أن يفوض ما فوضه الله إليه من أمر الخلق، إلى من يقوم عنه بفرض الجهاد والعمل بالحق، وان يوليه ولايةً شرعية تصح بها الأحكام وتنضبط بها أمور الإسلام، وتأتي هذه العصبة الإسلامية يوم تأتي كل أمة بإمامها من طاعة خليفتهم بخير إمام، وخرج أمر مولانا أمير المؤمنين شرفه الله أن يكون للمقر العالي، المولوي، السلطاني، الملكي، المنصوري، أجله الله ونصره، وأظفره وأقدره، وأبده وأيده، كل ما فوضه الله لمولانا أمير المؤمنين من حكم في الوجود، وفي التهائم والنجود، وفي المدائن والخزائن، وفي الظواهر والبواطن، وفيما فتحه الله وفيما سيفتحه، وفيما كان فسد بالكفر والرجاء من الله أنه سيصلحه، وفي كل وجود ومن، وفي كل عطاء ومن، وفي كل هبة وتمليك، وفي كل تفرد بالنظر في أمور المسلمين بغير شريك، وفي كل تعاهد ونبذ، وفي كل عطاء وأخذ، وفي كل عزل وتولية، وفي كل تسليم وتخلية، وفي كل إرفاق وإنفاق، وفي كل إنعام وإطلاق، وفي كل استرقاق وإعتاق، وفي كل تكثير وتقليل، وفي كل اتساعٍ وتقتير وفي كل تجديد وتعويض، وفي كل حمد وتقريض، ولايةً عامةً تامة محكمة محكمة، منضدة منظمة، لا يتعقبها نسخٌ من خلفها ولا من بين يديها، ولا يعتريها فسخٌ يطرأ عليها، يزيدها مر الأيام جدة يعاقبها حسن شباب، ولا ينتهي على الأعوام والأحقاب، نعم ينتهي إلى ما نصبه الله للإرشاد من سنة وكتاب، وذلك من شرع الله أقامه للهداية علماً، وجعله إلى احتياز الثواب سلماً، فالواجب أن يعمل بجزئيات أمره وكلياته، وان لا يخرج أحدٌ عن مقدماته. والعدل، فهو الغرس المثمر، والسحاب الممطر، والروض المزهر، وبه تتنزل البركات، وتخلف الهبات، وتربي الصدقات، وبه عمارة الأرض، وبه تؤدى السنة والفرض، فمن زرع العدل اجتنى الخير، ومن أحسن كفي الضرر والضير، والظلم، فعاقبته وخيمة، وما يطول عمر الملك إلا بالمعدلة الرحيمة، والرعية، فهم الوديعة عند أولي الأمر، فلا يخصص بحسن النظر منهم زيدٌ ولا عمرو، والأموال، فهي ذخائر العاقبة والمآل، والواجب أن تؤخذ بحقها، وتنفق في مستحقها، والجهاد براً وبحراً فمن كنانة الله تفوق سهامه، وتؤرخ أيامه، وينتضى حسامه، وتجري منشآته في البحر كالأعلام وتنشر أعلامه، وفي عقر دار الحرب يحط ركابه، ويخط كتابه، وترسل أرسانه، وتجوس خلالها فرسانه، فليلزم منه ديدناً، ويستصحب منه فعلاً حسناً، وجيوش الإسلام وكماته، وأمراؤه وحماته، فهم من قد علمت قدم هجره، وعظم نصره، وشدة باس، وقوة مراس، وما منهم إلا من شهد الفتوحات والحروب، وأحسن في المحاماة عن الدين الدؤوب، وهم بقايا الدول. وتحايا الملوك الأول، لا سيما أولو السعي الناجح، ومن لهم نسبةٌ صالحية إذا فخروا بها قيل لهم: نعم السلف الصالح، فأوسعم براً، وكن بهم براً، وهم بما يجب من خدمتك وأنت بما يجب من حرمتهم أدرى، والثغور والحصون، فهم ذخائر الشدة، وخزائن العديد والعدة، ومقاعد للقتال، وكنائن الرجاء والرجال، فأحسن لها التحصين، وفض أمرها إلى كل قويٍ أمين، وإلى كل ذي دينٍ متين، وعقل رصين، ونواب الممالك ونواب الأمصار، فأحست لهم الاختيار، وأجمل لهم الاختبار وتفقد لهم الأخبار. إذا فخروا بها قيل لهم: نعم السلف الصالح، فأوسعم براً، وكن بهم براً، وهم بما يجب من خدمتك وأنت بما يجب من حرمتهم أدرى، والثغور والحصون، فهم ذخائر الشدة، وخزائن العديد والعدة، ومقاعد للقتال، وكنائن الرجاء والرجال، فأحسن لها التحصين، وفض أمرها إلى كل قويٍ أمين، وإلى كل ذي دينٍ متين، وعقل رصين، ونواب الممالك ونواب الأمصار، فأحست لهم الاختيار، وأجمل لهم الاختبار وتفقد لهم الأخبار.
وأما ما سوى ذلك فهو داخلٌ في حدود هذه الوصايا النافعة، ولولا أن الله أمرنا بالتذكير، لكانت سجايا المقر الأشرف السلطاني، الملكي، المنصوري، مكتفيةً بأنوار ألمعيته الساطعة، وزمام كل صلاح يجب أن يشغل به جميع أوقاته، هو تقوى الله، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته}.
فليكن ذلك نصب العين، وشغل القلب والشفتين، وأعداء الدين من أرمن وفرنج وتتار، فأذقهم وبال أمرهم في كل إيراد للغزو وإصدار، وثر لأن تأخذ للخلفاء العباسيين ولجميع المسلمين منهم الثأر، واعلم أن الله نصيرك على ظلمهم وما للظالمين من أنصار.
وأما غيرهم من مجاوريهم من المسلمين فأحسن باستنقاذك منهم العلاج، وطبهم باستصلاحك فبالطب الملكي والمنصوري ينصلح المزاج، والله الموفق بمنه وكرمه.
وعلى هذه الطريقة مشى المقر الأشرف الناصري محمد بن البارزي الحموي صاحب دواوين الإنشاء الشريف بالديار المصرية وسائر الممالك الإسلامية: جمل الله تعالى الوجود بوجوده، وأناف بقدره على كيوان في ارتقائه وصعوده، وجعله لسلطانه المؤيد ردءاً ما بدا سعد الملك صاعداً إلا كان له السعد سعوده.
فكتب على ذلك العهد السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ خلد الله سلطانه، عن الأمام المستعين بالله أبي الفضل العباس أمير المؤمنين خليفة العصر أيد الله تعالى به الدين في شعبان المكرم سنة خمس عشرة وثمانمائة، بعد خلع الناصر فرج، فأتى فيه بما أخجل الروض المنمنم والنجم الزاهر، وأوجب على العارف بنقد الآمرين أن يقول: كم ترك الأول للآخر، عدد فيه وقائعه المشهورة، وذكر مناقبه التي صارت على صفحات الأيام مرموقةً وعلى مر الليالي مذكورة، وفي بطون التاريخ على توالي الجديدين وتعاقب الدهور مسطورة، فكتب على ذلك عهد السلطان الملك المؤيد أبي النصر شيخ خلد الله سلطانه، ونصه: الحمد لله الذي جعل الدين بنصره مؤيداً، وانتضاه لمصالح الملك والدين فأصبح ومن مرهفات عزمه باديةٌ بائدة العدا، وفتح على فقر الزمان بشيخ ملك زويت له عوارف العدل ومعارف الفضل فاستغنى ولله الحمد بسعيد السعدا، وأصلح فساد الأحوال بأحكام رأيه وإحكام حكمهفأصبحت مأمونة الرداء آمنةً من الردى، وامتن على أولياء الدولة الشريفة بمن لم يزل سهم تدبيره الشريف فيهم مسدداً، ومياه الظفر جاريةً من قناة غوره الذي بذلك تعودا، وبحر إحسانه الكامل وإن قدم العهد المديد مجدداً.
والحمد لله الذي جعل وجوه هذه الأيام بالأمن مسفرة، وليالي جودها بالعدل مقمرة، وعذبات أوليائها بالأفراح مزهرة، وحدائق أخصائها بالنجاح مثمرة، ومنازل أعدائها مقفرةً موحشة، ونوازلهم مذعرةً مدهشة، وأجسادهم بأمراض قلوبهم مشوشة، وأكبادهم بلواعج زفراتهم معطشة.
والحمد لله الذي جعل هذه الأيام الفاضلة الجلال جليلة الفضل، شاملة النظام ناظمة الشمل، هأمية بالمكرمات هائمةً بالعدل، دانية القطوف، معروفةً بالمعروف، مغثية الملهوف، مرهبةً للألوف، متصرفةً في الآفاق صارفة الصروف، حمداً يبهج النفوس، ويزيل البوس، ويديم السرور، ويذهب المحذور، والحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور.
نحمده على هذه النعم التي تفيأت الأمم بظلالها، وبلغت بها النفوس غاية آمالها، ورويت بعد ظمأ الخوف من حياض أمن زلالها، واستسرت بعد الحزن بأفراح قبولها وإقبالها، وارتفعت بعد انخفاضها رؤوس أبطالها وأقيالها.
ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً تديم النعماء، وتجزل العطاء، وتكشف الغماء، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي قرن طاعة أولي الأمر بطاعته، وأيد من اهتدى منهم بهدايته، وأهانه لما استعان بعنايته، وأظله تحت ظل عرشه يوم لا ظل إلا ظله في دار كرامته، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين انحازوا إلى حوزته واحتموا بحمايته، وأثمر لهم غرس دينه فرعوه حق رعايته، وشرف وكرم.
وبعد، فلما كانت رحمة الله تعالى لغضبه سابقة، ورأفته بعباده متلاحقة، وكانت الممالك الشريفة قد اختلت أمورها، وصار إلى الدثور معمورها، وأشرف على البوار أميرها ومأمورها، فالشرائع متغيرة شرائعها، والعوائد مفقودةٌ مآثرها، والمظالم قويٌ سلطانها، كثيرٌ أعوانها، ضعيفٌ مضاددها، قليل معاندها، فلا نائب سياسةٍ إلا مشغول بالنوائب، ولا حاكم شرع إلا وقد سدت عليه المذاهب ولا تاجرٌ إلا وقد خسرت تجارته فما ربحت، ولا ذو قارض إلا ورؤوس أمواله قد انقرضت، ولا صاحب تراث إلا وقد محيت آية ميراثه ونسخت ولا ركن مملكةٍ إلا وقد انهدم أساسه، ولا عضد دولة إلا وقد بطل إحساسه، أقام سبحانه وتعالى لإزالة هذه النوازل الفادحة، وإخماد نار هذه القبائح القادحة، من توفرت الدواعي على استحقاقه السلطنة الشريفة، وأجمعت الأمة على انحصار ذلك في أوصافه المنيفة، ودلت أمائر السعود على محله الجليل، وجنابه الذي إذا لاذ به من خاف الدهر رجع وطرف الدهر عنه كليل، طالما اصطفى موارد العدل، وأضفى أذيال الفضل، وأمن الخائف، وروع الحائف وأمضى في الجهاد عزمه، وأنفذ في السرايا إليه حكمه، وسدد إلى معاونه في غرض الكفار سهمه، وفتح الطريق إلى بيت الله الحرام بعد الانسداد، وأنعم على القانع والمعتر بالراحلة والزاد، وعمر المساجد، وجعلها آهلةً بالراكع والساجد، وجلا عروس الأموي في حلل التهليل والتكبير، وأعاد عود منبره الذابل وهو نضير، هذا مع شجاعةٍ شاهدها وشهد بها أبطال الإسلام، وسطوةٍ تخشاها الأسود في الآجام، ووقارٍ يخضع بالهيبة رؤوس الأعلام، وبشرٍ يطلع فجره من طالع جبهته، ونورٍ ساطعٍ من جبهته، وحياءٍ متطلع من طلعته، وحباء متدفق من أنملته، وكنت أيها الملك الجليل المؤيد لا زال شمل الدين بك مجموعاً، وعلم الإسلام مرفوعاً وقلب أهل الشرك والنفاق مروعاً أنت المتصف بهذه الصفات الحميدة، والكاشف لتلك الشدائد الشديدة، فلم يرعك خطر الخطارة، ولا انحلال أهل صرخد حيث اشتهرت عزائم صوارمك البتارة، ولا خطرتك من القيسارية إلى الريدانية في أسرع من غفوة والشيخ لا تنكر له الخطوة، ولا مشاهدة الحمام في الحمام، ولا زاغ بصرك باللجون حين أظلم القتام، حتى زال المانع، وهجع الهاجع، وأمنت الخطوب، وفرجت الكروب، وخلادست السلطنة ممن نكث الأيمان، وأصر على الإثم والعدوان، وأقررت اسم الخلافة على الانفراد، ليستخير الله في الأصلح للعباد والبلاد.
هذا ورأي أهل الحل والعقد من ملوك الإسلام وأمرائه، وقضاته وعلمائه، ومشايخه وصلحائه وخاصته وعامته، ورأي مولانا أمير المؤمنين، أعز الله تعالى به الدين، وجمع بيمن بركته شمل الإسلام والمسلمين، مجمعٌ على تفويض أمر المسلمين وولاية عهدهم وكفالة السلطنة الشريفة والإمامة العظمى إليك خلد الله سلطانك، وجعل الدهر خديمك والملائكة أعوانك، فقدم أمير المؤمنين من الاستخارة أمام هذا التقليد ما يعتبر في السنة الشريفة ويقدم، وعلم أن المصلحة فيما خاره الله وللأمة من ولايتك أيها الملك المبجل والسلطان الأعظم، وأنك أبرأ للذمة، وأبر بالأمة، وشاهد بإجماع الأمة على سلطنتك من التآلف والاتفاق، ما نفى الخلاف والشقاق، وما سر الجمهور الطائعين من غير دافع، والجم الغفير لبديع آرائك ورفيع راياتك مذعنين لحسن الاتباع، وأهل الحل والعقد لأمرك ونهيك قد خضعت منهم الرقاب، وسارعوا إلى إجابة دعوتك حين اتضحت لهم أدلة الصواب، والزمان بإفضاء الأمر إليك قد طاب واعتدل، والأرض في مشارقها ومغاربها بمهابتك قد أمنت من الوجل، والنفوس الأبية قد أذعنت لمبايعتك من غير مهل، والفتنة وقد رد الله بالغيظ مثيرها، والألفة وقد برقت من سرائر أهل التوحيد أساريرها، والعساكر المنصورة قد أحاطت به كما أحاطت بالبدور الهالة، وقد أنزل الله عليك ناموس المهابة والجلالة، وفوض إليك ما ولاه الله من أمور الإسلام والمسلمين، وأسند إليك ما في يده من مصالح عباده المؤمنين: لتقيم على أساس أحكامك دعائم الدين القويم، وتسير الخلائق على منهاج طريقك المستقيم، وتحسن إن شاء الله برعايتك عاقبة الرعية كما أصبحت قلوبهم بك راضيةً مرضية.
وعهد إليك أمير المؤمنين في كل ما وراء سرير خلافته، وفي كل ما يرتبط بأحكامه إمامته، وقلدك ذلك شرقاً وغرباً، وبعداً وقرباً، وبراً وبحراً، وسهلاً ووعراً، وفي كل ماله من الملك والممالك، وما يفتحه الله على يدك بعد ذلك، تفويضاً شاملاً، وتقليداً كاملاً، وإسناداً عاماً، ولايةً مكملة البنيان، مؤسسةً على تقوى من الله ورضوان، وسلطنةً آخذةً بالذمم، مشتملةً على جميع الأمم، يدخل في هذا العهد العام والتفويض التام، والرأي الذي شهد له إجماع الأمة بالإحكام، يدخل في ذلك مفضول الناس وفاضلهم، وعالمهم وجاهلهم، وخاصهم وعامهم، وناقصهم وتامهم، وشريفهم ومشروفهم، وقويهم وضعيفهم، وآمرهم ومأمورهم، وقاهرهم ومقهورهم، والجمع والجماعات، وبيوت العبادة والطاعات، والقضاة وأحكامها، والخطباء ومنابرها وأعلامها، والجيوش والعساكر والكتائب، ورب سيفٍ وكاتب إنشاء وقلم حاسب، وطوائف الرعايا على اختلاف أطوارهم، وتفاوت أرزاقهم وأقدارهم، والعربان والعشائر، وبيوت الأموال والذخائر، وداني الأمم وقاصيها، وطائعها وعاصيها، والخراج وجبايته والمصروف وجهاته، والصدقات ومستحقوها، والرزق ومرتزقوها، والإقطاعات والأجناد، وما يستعد به لمواطن الجهاد، والمنع والعطاء والقبض والإمضاء، والخمس والزكوات، والهدن والمعاهدات، والبيع والقمامات، وما يظهر من أمور الملك وما يخفى، وما تستدعيه براعتك في السر والخفا، وشعار السلطنة وأهبتها، ونواميس الملك وحرمتها.
فأجبت رعاك الله دعوة أمير المؤمنين ودعوتهم لقبول ذلك مسؤولاً، معتمداً على أن الله سينزل إليك من يسددك من الملائك فعلاً وقولاً، فاجلس أيدك الله على تخت ملكٍ قد هيأه الله لمواقفك المطهرة، وسرير سلطنةٍ علقت سرير سعدك الامجد فتقاعست الهمم عنه مقصرة.
فالحمد لله ثم الحمد لله عن الدهر وأبنائه، ولا مثل هذه النعمة بهذا الخبر وأنبائه، {ذلك من فضل الله علينا وعلى الناس} وهذا ما كان من قضية الدين على رغم الوسواس الخناس، وهذا ما كانت الآمال تنتظر وروده، وجواري القدم ترتقب سعوده:
والله ما زادوك ملكاً إنما ** زادوا أكف الطالبين نوالا!

وأما الوصايا، فأنت بحمد الله طالما ملأت بها الأسماع، وكشفت عاطفتك لمن أردت ترتيبه عنها القناع، ولكن عهد من تعبداتك السماع لشدوها، والطرب لحدوها، فعليك بتقوى الله، فيها تورق أغصان الأرب الذوابل، ويغرد طائر عزك الميمون بالأسحار والأصائل، فاجعلها ربيع صدرك، وأينع بها حدائق فكرك، وروح بعرفها الأريج أرجاء ملكك، وأجر الشرع الشريف على ما عودته من نصرك، والعلماء على ما ألفوه من برك وخيرك، فهم ورثة الأنبياء عليهم السلام، والدالون على الشريعة بأسنة أقلامهم ما يكل عنه حد الحسام، وطهر منصب الشرع الشريف من الرذائل، وصن أيام ملكك الشريف عن الجهال، والآكلين أموال الناس بالباطل، والعدل ونستغفر الله فإنك مثمر لغراسه، رافعٌ ما انهدم من أساسه، قد جعلته مجلس محاكماتك، وأنيس خلواتك، والفضل وبرك أخجل الأقلام فلو مر بك راجيك على الصفا لارتاح للمعروف، أو شاهد هباتك حاتمٌ لرجع طرفه عنها وهو مطروف، ولا سرف في الخير، ولا ضرر ولا ضير، وأمر بالمعروف وانه عن المنكر فأنت المسؤول بين يدي الله عن ذلك، وانه نفسك عن الهوى بحيث لا يراك الله هناك، وحدود الله فلا تتعداها، والرعايا فحطها بعين رعايتك وارعاها، وجند الجنود براً وبحراً، وأنل أعدائك قهراً وقسراً وراجع النظر في أمر نواب السلطنة الشريفة مراجعة الناقد البصير، وتيقظ لصيانة قلاع الممالك ومعاقلها وحصونها، وتخير لها من ليس بمشكوك المناصحة ولا مظنونها، وحطها مع عمارتها بالعدة والعدد، والأقوات لكي تطمئن النفوس بمددها منها إذا طالت المدد، وتفقد أحوال من فيها من المستخدمة، وارع حقوق من له بها خدمةٌ متقدمة، واجعل الثغور باسمةً بحفظتها ولاحظ الأمور بحسن تدبيرك المألوف في سياستها، واستوص خيراً بأمرائك الخالصين من الشكوك، السالكين في طاعتك أحسن السلوك، وضاعف لهم الحرمة، وارع لهم الذمة، لا سيما أولي الفكر الثاقب، والرأي الصائب، فشاورهم في مهمات الأمور، واشرح بإحسانك منهم الصدور، وارع حقوق المهاجرين والأنصار، الذين سلكت معهم مطاياهم البطاح والقفار، وهجروا محبوبهم من الوطن والدار، وجالدوا وجادلوا، وآووا في سبيلك وقاتلوا، وأنل كلاً منهم ما يرجوه، واشرح صدورهم بإدراك ما أملوه، وجيوش الإسلام فاغرس محبتك في قلوبهم بإحسانك، وكما سبقتهم بإحسانك فتحبب إليهم بجزيل امتنانك، وجيوش البحر فكن لها محيطاً، وبجليات مشيها محيطاً، فإنها توجه الأصقاع، سليمانية الإسراع، تقذف بالرعب في قلوب أعداء الدين، وتقلع بقلوعها آثار الملحدين، فواصل تجهيز السرايا لركوب ثبجه، والغوص إلى أعداء الله في عميق لججه، وأجمل النظر في بيت الله الحرام، وحرم رسوله، عليه أفضل الصلاة والسلام: لتسلك عين الأمن الأبطاح وتقر عيون حمره بالمائح والمتاح، وتتعرف بعرفانك عرفات، وترمى مخاوف الخيف من أيدي مهابتك بالجمرات، وصل جيرانهما بصلاتك: لتسهر أعينهم بالدعاء لك وأنت في غفواتك. والقدس الشريف الذي هو أحد المساجد التي تشد إليها الرحال فزد تقديسه، واجعل ربوع عباداته بالصلوات مأنوسة. وإقامة موسم الحج كل سنة فأنت بعد حركة تيمور فاتح سبيله، وكاسي محمله حلل توقيره وتبجيله.
هذه الوصايا تذكرةٌ للخاطف الشريف وحاشاك من النسيان، وهذا عهد أمير المؤمنين ومبايعة أولي الحل والعقد قد تقاضيا إلى حقك على الزمان، وعندك كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ما ضل من تمسك بهما ولامان، فاتبع أحكام الله يوسع الله لك في ملكك، واجعل هديك بهما إمام نهيك وأمرك، وأد ما قلدك الله من حقوق الإمامة والأمانة إلى خلقه أداءً موفوراً: {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً}.
قلت: ولما كان هذا العهد قد ادرع جلباب العجائب فأعجب، وارتدى برداء الغرائب فأغرب، وسقي غرسه ماء البلاغة فأنجب، وشنف الأسماع إذا أسمع فأرقص على السماع وأطرب، وامتطى صهوة جياد البيان فتنقل فيها من كميت إلى أشقر ومن أحوى إلى أشهب أحببت أن آتي له بطرة هي له في الحقيقة ذيل، ونغبةٌ من البحر وقطرةٌ من سيل، لا جرم جعلتها في الوضع في الكتاب له لاحقة، وإن جرت العادة أن تكون الطرة للعهد سابقة، وهو:
هذا عهدٌ شريفٌ ترقمه أقلام أشعة الشمس بذهب الأصيل على صفحات الأيام، وتعجمه الثريا بنقط النجوم الزواهر وإن كان لا عهد للعهود بالإعجام، وتعترف ملوك الأرض أن صاحبه شيخ الملوك والسلاطين فتقدمه في الرأي وتجله في الرتبة وتعامله بالإجلال والإعظام، من عبد الله ووليه، وخليفته في أرضه وصفيه، وسليل خلفائه الراشدين وابن عم نبيه، الإمام الفلاني إلى السلطان الأعظم الملك الفلاني إلى آخر الألقاب.
وهذه نسخة عهد على هذا المذهب، كتب به عن أمير المؤمنين المستعين بالله أبي الفضل العباس خليفة العصر، للملك العادل شمس الدنيا والدين مظفرشاه بالسلطنة بالمملكة الهندية، في شوال سنة ثلاث عشرة وثمانمائة بدمشق المحروسة، من إنشاء الشيخ الإمام علامة العصر جامع أشتات الأدب ومالك زمامه، تقي الدين محمد بن حجة، الشاعر الحموي، ومفتي دار العدل بحماة المحروسة، مما كتب بخط المولى تاج الدين عبد الرحمن بن تاج، أحد كتاب الإنشاء الشريف بالأبواب الشريفة، في قطع البغدادي الكامل بخفيف الطومار، وكانت الطرة المكتتبة في الوصل الأول خمسة أسطر بالقلم المذكور، وسطرين بخفيف المحقق، والطرة البيضاء خمسة أوصال، والبياض بين كل سطرين ثلث ذراع، وبيت العلامة الشريفة ضعف ذلك، والهامش ربع الورق على العادة. وصورة الطرة: عهدٌ شريفٌ عهد به عبد الله ووليه، سيدنا ومولانا الإمام الأعظم العباس أبو الفضل المستعين بالله أمير المؤمنين، وابن عم سيد المرسلين، أعز الله به الدين، وأمتع ببقائه الإسلام والمسلمين، إلى المقام الأشرف، العالي، السلطاني، العادلي، الشمسي، أبي المجاهد مظفر شاه أعز الله تعالى أنصاره. وقلده السلطنة المعظمة بحضرة دهلى وأعمالها ومضافاتها على عادة من تقدمه في ذلك، ولايةً عامةً شاملةً كاملةً جامعة، وازعةً قاطعةً ساطعة، شريفةً منيفة: في سائر الممالك الهندية وأقاليمها، وثغورها، وبلادها، وعساكرها وأكابرها وأصاغرها، ورعاياها ورعاتها وحكامها، وقضاتها، وما احتوت عليه شرقاً وغرباً، بعداً وقرباً، على ما شرح فيه.
الصدر بعد البسملة الشريفة: الحمد لله الذي وثق عهد النجاح للمستعين به وثبت أوتاده: ليفوز من تمسك من غير فاصلة بسببه، وزين السماء الدنيا بمصابيح وحفظاً، وافرغ على أعطاف الأرض حلل الخلافة الشريفة، وعلم أن خلفها الشريف زهرة الحياة الدنيا فقال عز من قائل: {إني جاعلٌ في الأرض خليفة}. واختارها من بيتٍ براعة استهلاله في أول بيتٍ وضع للناس، وسبقت إرادته وله الحمد أن تكون هذه النهلة من سقاية العباس.
فالحمد لله على أن جعل هذه السقاية عيناً يشرب بها المقربون، ومن علم شرفها وتمسك بقوله تعالى: {قل هل يستوي الذين يعملون والذين لا يعلمون}.
والحمد لله الذي استخلف آله في الأرض وفضلهم، فإن تحدث أحدٌ في شرف بيتٍ فالله سبحانه قد جعل البيت والحديث لهم، فأكرم به بيتاً من أقر بعبوديته كان له بحمد الله من النار عتقاً، وتمتع بنعيم بركته التي لا يتجنبها إلا الأشقى، وهو البيت الذي بعث الله منه شاهداً ومبشراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، وصفى أهله من الأدناس وأنزل في حقهم:
إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيراً، وصير علمهم الخليفتي على وجنة الدهر شامة، وخصهم بالتقديم فالحمد لله والله أكبر لهذه الإمامة، وإذا كان النسيب مقدماً في المدح وهو في النظم واسطة العقود، فهذا هو النسب الذي كأن عليه من شمس الضحى نوراً ومن فلق الصباح عمود، وهذا هو الركن الذي من استلمه واستند إليه قيل له: فزت بعلو سندك، فقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال لعمه العباس: «يا عم ألا أبشرك؟» قال: بلى يا رسول الله قال: «إن الله فتح الأمر بي ويختمه بولدك». وهذا الحديث يرشد إلى التمسك بطيب العهود العباسية لتفيض على المتمسك بها نيل الوفاء، وتعين من استعان بالمستعين وعلم أن النبي عليه السلام قال لجده: «أنت أبو الخلفاء». وناهيك أنه صلى الله عليه وسلم قال لأم الفضل وهي شاكةٌ في الحمل: «اذهبي بأبي الخلفاء» فما كان عبد الله المنتظم به هذا الشمل فاحبب بها شجرةً زكا غرسها ونما، وتسامت بها الأرض وكيف لا؟ وأصلها ثابتٌ وفرعها في السما، فسلام على هذا الخلف الذي منه المستعين بالله والمتوكل عليه والواثق به والمعتصم والرشيد، ورحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت إنه حميدٌ مجيد.
نحمده حمد من علم أن آل هذا البيت الشريف كسفينة نوح وتعلق بهم فنجا، ونشكره شر من مال إلى الدخول تحت العلم العباسي وتنصل من الخوارج فوجد له من كل ضيق مخرجا، ونشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نرجو أن تكون مقبولةً عند الحاكم وقت الأدا، ونشهد أن محمداً عبده ورسوله الذي حرضنا على التمسك بالعهود أرشدنا إلى طريق الهدى، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه الذين وفوا بالعهود، وكانوا في نظام هذا الدين وجمعه فرائد العقود، صلاةً يسقي عهاد لرحمة إن شاء الله عهدها، وينتظم في سلك القبول عقدها، وسلم تسليماً.
أما بعد حمد الله الذي ألهمنا الرشد وجعل منا الخلفاء الراشدين، وهدانا بنبيه صلى الله عليه وسلم وخصنا من بيته الشريف بالأئمة المهديين، واصطفى من هذا الخلف خلائف الأرض، وسن مواضي العقول التي قطعت أن طاعتنا فرض، فإن لعهدنا العباسي شرفاً لا يرفل في حلله إلا من اتخذ مع الله عهداً وأتاه بقلبٍ سليم، فقد قال الله تعالى بعد أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: {إن الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذابٌ أليم}. لا يتمسك بهذا العهد إلا من صحا إلى القيام بواجب الطاعة وترك أهل الجهل في سكرتهم يعمهون، وانتظم في سلك من أنزل الله في حقهم: {والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس أولئك هم المتقون}، فمن نهض إلى المشي في منهاجه مشى بعين البصيرة في الطريق القويم، وتلا له لسان الحال: {أفمن يمشي مكباً على وجهه أهدى أمن يمشي سوياً على صراطٍ مستقيم}، وهو قبضةٌ من آثار البيعة النبوية، وشعار يتشرف به من مشى تحت ألويته العباسية، وما أرسل هذا العهد النبوي إلى أحد من ملوك الأرض إلا عمه الشرف من جميع جهاته، والله أعلم حيث يجعل رسالته وشدت أعواد منبره طرباً، وأزهرت رونقاً وأثمرت أدباً، واستطالت بيد الخلافة لإقامة الحد، وكيف لا ويد الخلافة لا تطأولها يد، وكان المقام الأشرف إلى آخر الألقاب المذكورة في التعريف واسمه المكتتب في الطرة هو الذي رغب في التمسك بهذا العهد الشريف ليزيل عن ملكه الالتباس، واستند إليه ليروي بسنده العالي عن ابن عباس، فإنه الملك الذي ظفره الله بأعداء هذا الدين وسماه مظفراً ولقبه بالشمسي واختار له أن يقارن من الطلعة المستعينية قمراً، أينع زهر العدل من حضرة دهلى فعطر الآفاق، وضاع نشره بالهند فعاد الشم إلى المزكوم بالعراق، وصارت دمن سمنات عامرةً بقيام الدين، وأيده الله فيها بعد القتال بالفتح المبين، ولم يترك للعدو في بيت بيت ليلة، وأبطل ما دهره أهل دهلى بحسن اليقظة وقوة الصولة، وأباد الكفرة من أهل ديو ولم يقبل لهم دية، وفاءوا إلى غير أمر الله فأبادهم بسيفه الهندي فلم تقم لهم فية، وفطر أكباد من ناوأه بها فلازموا عن رؤيتها الصوم، ونادى منادي عدله بالبلاد الهندية: لا ظلم اليوم، ودانت له تلك الممالك براً وبحراً، وسهلاً ووعراً، ما نظم الأعداء على البحر المديد بيتاً إلا أبان زحافه وأدار عليه دوائره، فكم نظم شمل الرعايا بالعدل ونثر رؤوس الطغاة بالسيف فلا عدم الإسلام ناظمه وناثره، سئلت الركبان في البر عن مناقبه الجميلة وعم يتساءلون وقد صار لها عظيم النبا، وصرح راكب البحر بعد التسمية باسمه واتخذ سبيله في البحر عجباً ج فظله في البر ظليل، وعدله في البحر بسيط وطويل.
وهذا ولم يبق في تلك الممالك الهندية بقعةٌ غلا ولم يصغر الله بسنابك الخيل فيها ممشاه، ولا نفسٌ خارجةٌ عن الطاعة إلا وماتت في رقعة الأرض بمظفر شاه، فلذلك رسم بالأمر الشريف العالي، المولوي، السيدي، الإمامي، الأعظمي، النبوي، المستعيني، سيدنا ومولانا أمير المؤمنين المستعين بالله أبي الفضل العباس ونسبه إلى الحاكم بأمر الله، والدعاء بعد أن استخار الله تعالى سيدنا ومولانا أمير المؤمنين كثيراً، واتخذه هادياً ونصيراً، وصلى على ابن عمه سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أن يفوض إلى المقام الأشرف المشار إليه ولاية العهد وكفالة السلطنة المعظمة، بحضرة دهلى وأعمالها كما في الطرة كما هو المعهود: ليهطل جود الرحمة على تلك البقاع المباركة إن شاء الله ويجود: لما رآه من صلاح الأمة ومصالح الخلق، استخلافاً تتحلى بذكره الأفواه، وتستند إليه الرواة، وتترنم به الحداة، وتستبشر به كافة الأمم، ويقطع به ويحفظه رب كل سيفٍ وقلم، ويعتمد عليه كل ذي علم وعلم، فلا زعيم جيش بها إلا وهذا التفويض يسعه ويشمله، ولاإقليم من أقاليمها إلا ومن به يقبله ويقبله، ويتمثل به ويمتثله، ولا منبر بجوامعها إلا وخطيبه يتلو برهان هذا التفويض ويرتله.
وأما الوصايا فعنده إن شاء الله تهب نسمات قبولها، وتعرب عن نصب مفعولها، وهو بحد الله تعالى لوصايا هذا العهد المبارك نعم ألقابل، ففي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم: «سبعةٌ يظلهم الله في ظله منهم الإمام العادل» والوصية بالرعايا واجبة والعدل فيهم قد حرض النبي صلى الله عليه وسلم عليه، وقال: «يومٌ من إمامٍ عادلٍ أفضل من مطر أربعين صباحاً أحوج ما تكون الأرض إليه». وقال ابن عمنا علي رضي الله عنه: الملك والدين أخوان لا غنى لأحدهما عن الآخر، ونشرهما في الرعية ضائع، فالدين أسٌ والملك حارس، فما لم يكن له أسٌ فمهدوم، وما لم يكن له حارسٌ فضائع، فليأمر بالمعروف وينه عن المنكر عالماً أنه ليس يسأل غداً بين يدي الله عز وجل عن ذلك سوانا وسواه، وينه نفسه عن الهوى فلا يحسن لعود قده أن يميل مع هواه وليترك الثغور بعدله باسمةً، وقواعد الملك بفضله قائمةً، وليجاهد في الله حق جهاده، ويلطف بالرعايا ويعلم أن الله لطيفٌ بعباده وليشرح لهم بالإحسان صدراً، ويجرهم إذا وقف على أحوالهم أحسن مجرى، وهو بحمد الله غير محتاج إلى التأكيد: لأنه لم يخل له من القيام في مصالح المسلمين فكر، ولكنه تجديد ذكر على ذكر، والله تعالى يمتع بطول بقائه البلاد والعباد، ولا برحت سيوفه الهندية تكلم أعداء هذا الدين بألسنةٍ حداد، وثبت ملكه بالعدل وشيد أقواله وأفعاله، وختم بالصالحات أعماله، والاعتماد على الخط الإمامي المستعيني أعلاه، إن شاء الله تعالى.
قلت: ولم يعهد أنه كتب عن الخلفاء العباسيين القائمين بالديار المصرية عهدٌ لملك من غير ملوك الديار المصرية سوى هذا العهد.
المذهب الرابع: أن يفتتح العهد بقوله أما بعد فالحمد لله...:
أو أما بعد فإن أمير المؤمنين أو أما بعد فإن كذا ونحو ذلك.
ويأتي بما يناسب من براعة الاستهلال وحال المتولي والمولي وما يجري مجرى ذلك مما يسنح للكاتب ذكره مما يناسب الحال، ويأتي من الوصايا بما يناسب المقام: إما بلفظ الغيبة أو بلفظ الخطاب كما في غيره من المذاهب السابقة، وهي طريقة اقترحها الوزير ضياء الدين بن الأثير في المثل السائر أنشأ عليها عهداً في معارضة المكتوب للسلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب من ديوان الخلافة ببغداد الآتي ذكره في المذهب الخامس، وهذه نسخته: أما بعد، فإن أمير المؤمنين يبدأ بحمد الله الذي يكون لكل خطبة قياداً، ولكل أمر مهاداً، ويستزيده من نعمه التي جعلت التقوى له زاداً، وحملته عبء الخلافة فلم يضعف عنه طوقاً ولم يأل فيه اجتهاداً، وصغرت لديه أمر الدنيا فما تسورت له محراباً ولا عرضت عليه جياداً وحققت فيه قوله تعالى: {وتلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علواً في الأرض ولا فساداً}، ثم يصلي على من أنزلت الملائكة لنصره إمداداً، وأسري به إلى السماء حتى ارتقى سبعاً شداداً، وتجلى له ربه فلم يزغ منه بصراً ولا أكذب فؤاداً، ثم من بعده على أسرته الطاهرة التي زكت أوراقاً وأعواداً، وورثت النور المبين تلاداً، ووصفت بأنها أحد الثقلين هدايةً وإرشاداً، وخصوصاً عمه العباس المدعو له بأن يحفظ نفساً وأولاداً، وأن تبقى كلمة الخلافة فيهم خالدةً لا تخاف دركاً ولا تخشى نفاداً.
وإذا استوفى القلم مداده من هذه الحمدلة، وأسند القول فيها عن فصاحته المرسلة، فإنه يأخذ في إنشاء هذا التقليد الذي جعله حليفاً لقرطاسه، واستدام سجوده على صفحته حتى لم يكد يرفع من راسه، وليس ذلك إلا لإفاضته في وصف المناقب التي كثرت فحسن لها مقام الإكثار واشتبه التطويل فيها بالاختصار، وهي التي لا يفتقر واصفها إلى القول المعاد، ولا يستوعر سلوك أطوادها ومن العجب وجود السهل في سلوك الأطواد، وتلك مناقبك أيها الملك الناصر الأجل، السيد، الكبير، العالم، العادل، المجاهد، المرابط، صلاح الدين، أبو المظفر، يوسف بن أيوب، والديوان العزيز يتلوها عليك تحدثاً بشكرك ويباهي بك أولياءه تنويهاً بذكرك ويقول: أنت الذي تستكفى فتكون للدولة سهمها الصائب، وشهابها الثاقب، وكنزها الذي تذهب الكنوز وليس بذاهب، وما ضرها وقد حضرت في نصرتها إذا كان غيرك هو الغائب، فاشكر إذاً مساعيك التي أهلتك لما أهلتك، وفضلتك على الأولياء بما فضلتك، ولئن شوركت في الولاء بعقيدة الإضمار، فلم تشارك في عزمك الذي انتصر للدولة فكان له بسطة الانتصار وفرقٌ بين من أمد بقلبه ومن أمد بيده في درحات الإمداد، وما جعل الله القاعدين كالذين قالوا: لو أمرتنا لضربنا أكبادها إلى برك الغماد، وقد كفاك من المساعي أنك كفيت الخلافة أمر منازعيها، فطمست على الدعوة الكاذبة التي كانت تدعيها، ولقد مضى عليها زمنٌ ومحراب حقها محفوف من الباطل بمحرابين، ورأت ما رآه رسول الله صلى الله عليه وسلم من السوارين اللذين أولهما كذابين فبمصر منهما واحدٌ تاه بمجرى أنهارها من تحته، ودعا الناس إلى عبادة طاغوته وجبته، ولعب بالدين حتى لم يدر يوم جمعته من يوم أحده ولا يوم سبته، وأعانه على ذلك قومٌ رمى الله بصائرهم بالعمى والصمم، واتخذوه صنماً بينهم ولم تكن الضلالة هناك إلا بعجل أو صنم، فقمت أنت في وجه باطله حتى قعد، وجعلت في جيده حبلاً من مسد، وقلت ليده: تبت فأصبح وهو لا يسعى بقدم ولا يبطش بيد، وكذلك فعلت بالآخر الذي نجمت باليمين ناجمته، وسامت فيه سائمته، فوضع بيته موضع الكعبة اليمانية، وقال: هذا ذو الخلصة الثانية، فأي مقاميك يعترف الإسلام بسبقه، أم أيهما يقوم بأداء حقه وهاهنا فليصبح القلم للسيف من الحساد، ولتقصر مكانته عن مكانته وقد كان له من الأنداد، ولم يحظ بهذه المزية إلا انه أصبح لك صاحباً، وفخر بك حتى طال فخراً كما عز بك جانباً، وقضى بولايتك فكان بها قاضياً لما كان حده قاضباً.
وقد قلدك أمير المؤمنين البلاد المصرية واليمنية غورا ونجداً، وما اشتملت عليه رعيةً وجنداً، وما انتهت إليه أطرافها براً وبحراً، وما يستنقذ من مجاوريها مسالمةً وقهراً، وأضاف إليها بلاد الشام وما تحتوي عليه من المدن الممدنة، والمراكز المحصنة، مستثنياً منها ما هو بيد نور الدين إسماعيل بن نور الدين محمود رحمه الله: وهو حلب وأعمالها، فقد مضى أبوه على آثار في الإسلام ترفع ذكره في الذاكرين، وتخلفه في عقبه في الغابرين، وولده هذا قد هذبته الفطرة في القول والعمل، وليست هذه الربوة إلا من ذلك الجبل، فليكن له منك جارٌ يدنو منه وداداً كما دنا أرضاً ويصبح وهو له كالبنيان يشد بعضه بعضاً، والذي قدمناه من الثناء عليك ربما تجاوز بك درجة الاقتصاد، وألفتك عن فضيلة الازدياد، فإياك أن تنظر إلى سعيك نظر الإعجاب، وتقول: هذه بلادٌ افتتحها بعد أن أضرب عنها كثيرٌ من الأضراب، ولكن اعلم أن الأرض لله ولرسوله ثم لخليفته من بعده ولا منة للعبد بإسلامه بل المنة لله بهداية عبده، وكم سلف قبلك ممن لو رام ما رمته لدنا شاسعه، وأجاب مانعه، لكن ذخره الله لك لتحظى في الآخرة بمفازه، وفي الدنيا برقم طرازه، فألق بيدك عند هذا القول إلقاء التسليم، وقل: {لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم}.
وقد قرن تقليدك هذا بخلعة تكون لك في الاسم شعاراً، وفي الرسم فخاراً، وتناسب محل قلبك وبصرك وخير ملابس الأولياء ما ناسب قلوباً وأبصاراً، ومن جملتها طوقٌ يوضع في عنقك موضع العهد والميثاق، ويشير إليك بأن الإنعام قد أطاف بك إطافة الأطواق بالأعناق، ثم إنك خوطبت بالملك وذلك خطابٌ يقضي لصدرك بالانشراح، ولأملك بالانفساح، وتؤمر معه بمد يدك إلى العلياء، لا بضمها إلى الجناح، وهذه الثلاثة المشار إليها هي التي تكمل بها أقسام السيادة، وهي التي لا مزيد عليها في الإحسان فيقال: إنها الحسنى وزيادة، فإذا صارت إليك فانصب لها يوماً يكون في الأيام كريم الأنساب، واجعله لها عيداً وقل: هذا عيد التقليد والخلعة والخطاب، هذا ولك عند أمير المؤمنين مكانةٌ تجعلك لديه حاضراً وأنت ناءٍ عن الحضور، وتظن أن تكون مشتركةً بينك وبين غيرك والضنة من شيم الغيور، وهذه المكانة قد عرفتك نفسها وما كنت تعرفها، وما نقول إلا أنها لك صاحبةٌ وأنت يوسفها، فاحرسها عليك حراسةً تقضي بتقديمها، واعمل لها فإن الأعمال بخواتيمها، واعلم أنك قد تقلدت أمراً يفتن به تقي الحلوم، ولا ينفك صاحبه عن عهدة الملوم، وكثيراً ما ترى حسناته يوم القيامة وهي مقتسمةٌ بأيدي الخصوم، ولا ينجو من ذلك إلا من أخذ أهبة الحذار، وأشفق من شهادة الأسماع والأبصار، وعلم أن الولاية ميزانٌ إحدى كفتيه في الجنة والأخرى في النار. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا أبا ذرٍ إني أحب لك ما أحب لنفسي لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم». فانظر إلى هذا القول النبوي نظر من لم يخدع بحديث الحرص والآمال، ومثل الدنيا وقد سيقت إليك بحذافيرها أليس مصيرها إلى زوال؟. والسعيد من إذا جاءته قضى بها أرب الأرواح لا أرب الجسوم، واتخذ منها وهي السم دواءً وقد تتخذ الأدوية من السموم، وما الاغتباط بما يختلف على تلاشيه المساء والصباح؟ وهو {كماء أنزلناه من السماء فاختلط به نبات الأرض فأصبح هشيماً تذروه الرياح} والله تعالى يعصم أمير المؤمنين وولاة أمره من تبعاتها التي لابستهم ولابسوها، وأحصاها الله عليهم ونسوها، ولك أنت من هذا الدعاء حظٌ على قدر محلك من العناية التي جذبت بضعك ومخلك من الولاية التي بسطت من درعك. فخذ هذا الأمر الذي تقلدته أخذ من لم يتعقبه بالنسيان، وكن في رعايته ممن إذا نامت عيناه كان قلبه يقظان.
وملاك ذلك كله في إسباغ العدل الذي جعله الله ثالث الحديث والكتاب، وأغنى بثوابه وحده عن أعمال الثواب، وقدر يوماً منه بعبادة ستين عاماً في الحساب، ولم يأمر به آمرٌ إلا زيد قوةً في أمره وتحصن به من عدوه ومن دهره، ثم يجاء به يوم القيامة وفي يده كتابا أمان، ويجلس على منبر من نور على يمين الرحمن، ومع هذا فإن مركبه صعبٌ لا يستوي على ظهره إلا من أمسك عنان نفسه قبل إمساك عنانه، وغلبت لمة ملكه على لمة شيطانه، ومن أوكد فروضه أن يمحي السنن السيئة التي طالت مدد أيامها، ويئس الرعايا من رفع ظلماتها فلم يجعلوا أمداً لانحسار ظلامها، وتلك هي المكوس التي أنشأتها الهمم الحقيرة، ولا غنى للأيدي الغنية إذا كانت ذات نفوس فقيرة، وكلما زيدت الأموال الحاصلة منها قدراً زادها الله محقاً وقد استمرت عليها العوائد حتى ألحقها الظالمون بالحقوق الواجبة فسموها حقاً، ولولا أن صاحبها أعظم الناس جرماً لما أغلظ في عقابه، ومثلت توبة المرأة الغامدية بمتابه، وهل أشقى ممن يكون السواد الأعظم له خصماً، ويصبح وهو مطالبٌ منهم بما يعلم وبما لم يحط به علماً. وأنت مأمورٌ بأن تأتي هذه الظلامات فتنحي عل إبطالها، وتلحق أسماءها في المحو بأفعالها، حتى لا يبقى لها في العيان صور منظورة، ولا في الألسنة أحاديث مذكورة، فإذا فعلت ذلك كنت قد أزلت عن الماضي سنة سوء سنتها يداه، وعن الآتي متابعة ظلم وجده طريقاً مسلوكاً فجرى على مداه، فبادر إلى ما أمرت به مبادرة من لم يضق به ذرعاً، ونظر إلى الحياة الدنيا بعينه فرآها في الآخرة متاعاً، واحمد الله على أن قيض لك إمام هدىً يقف بك على هداك، ويأخذ بحجزتك عن خطوات الشيطان الذي هو أعدى عداك، وهذه البلاد المنوطة بنظرك تشتمل على أطرافٍ متباعدة، وتفتقر في سياستها إلى أيدٍ مساعدة، وبهذا تكثر فيها قضاة الأحكام، وأولوا تدبيرات السيوف والأقلام، وكلٌ من هؤلاء ينبغي أن يفتن على نار الاختبار، ويسلط عليه شاهدا عدل من أمانة الدرهم والدينار، فما أضل الناس شيءٌ كحب المال الذي فورقت من أجله الأديان، وهجرت بسببه الأولاد والأخوان، وكثيراً ما يرى الرجل الصائم القائم وهو عابدٌ له عبادة الأوثان، فإذا استعنت بأحد منهم على شيءٍ من أمرك فاضرب عليه بالأرصاد، ولا ترض بما عرفته من مبدإ حاله فإن الأحوال تتنقل تنقل الأجساد، وإياك أن تخدع بصلاح الظاهر كما خدع عمر بن الخطاب رضي الله عنه بالربيع ابن زياد، وكذلك فأمر هؤلاء على اختلاف طبقاتهم أن يأمروا بالمعروف مواظبين، وينهوا عن المنكر محاسبين، ويعلموا أن ذلك من دأب حزب الله الذين جعلهم الغالبين، وليبدأوا أولاً بأنفسهم فيعدلوا بها عن هواها، ويأمروها بما يأمرون به من سواها، ولا يكونوا ممن هدى إلى طريق البر وهو عنه حائد، وانتصب لطب المرضى وهو محتاجٌ إلى طبيبٍ وعائد، فما تنزل بركات السماء إلا على من خاف مقام ربه، وألزم التقوى أعمال يده ولسانه وقلبه، فإذا صلحت الولاة صلحت الرعية بصلاحهم، وهم لهم بمنزلة المصابيح ولا يستضيء كل قومٍ إلا بمصباحهم.
ومما يؤمرون به أن يكونوا لمن تحت أيديهم إخواناً في الاصطحاب، وأعواناً في توزع الحمل الذي يثقل على الرقاب، فالمسلم أخو المسلم وإن كان عليه أميراً، وأولى الناس باستعمال الرفق من كان فضل الله عليه كبيراً، وليست الولاية لمن يستجد بها كثرة اللفيف، ويتولاها بالوطء العنيف، ولكنها لمن يمال على جوانبه، ويؤكل من أطايبه، ولمن إذا غضب لم ير للغضب عنده أثر، وإذا ألحف في سؤاله لم يلحق الإلحاف بخلق الضجر، وإذا حضر الخصوم بين يديه عدل بينهم في قسمة القول والنظر، فلذلك الذي يكون لصاحبه في أصحاب اليمين، والذي يدعى بالحفيظ العليم وبالقوي الأمين، ومن سعادة المرء أن يكون ولاته متأدبين بآدابه، وجارين على نهج صوابه، وإذا تطايرت الكتب يوم القيامة كانت حسناته مثبتةً في كتابه.
وبعد هذه الوصية فإن هاهنا حسنةً هي للحسنات كالأم الولود، ولطالما أغنت عن صاحبها إغناء الجنود، وتيقظت لنصره والعيون رقود، وهي التي تسبغ لها الآلاء، ولا يتخطاها البلاء، ولأمير المؤمنين بها عنايةٌ تبعثها الرحمة الموضوعة في قلبه، والرغبة في المغفرة لما تقدم وتأخر من ذنبه، وتلك هي الصدقة التي فضل الله بعض عباده بمزية إفضالها، وجعلها سبباً إلى التعويض عنها بعشر أمثالها. وهو يأمرك أن تتفقد أحوال الفقراء الذين قدرت عليم مادة الأرزاق، وألبسهم التعفف ثوب الغنى وهم في ضيقٍ من الإملاق، فأولئك أولياء الله الذين مستهم الضراء فصبروا، وكثرت الدنيا في يد غيرهم فما نظروا إليها إذ نظروا، وينبغي أن يهيء لهم من أرهم مرفقاً، ويضرب بينهم وبين الفقر موبقاً.
وما أطلنا لك القول في هذه الوصية إلا إعلاماً من المهم الذي يستقبل ولا يستدبر، ويستكثر منه ولا يستكثر، وهذا يعد من جهاد النفس في بذل المال، ويتلوه جهاد العدو الكافر في مواقف القتال، وأمير المؤمنين يعرفك من ثوابه ما تجعل السيف في ملازمته أخا، وتسخو بنفسك إن كان أحدٌ بنفسه سخا، ومن صفاته أنه العمل المحبو بفضل الكرامة، الذي ينمي أجره بعد صاحبه إلى يوم القيامة، وبه تمتحن طاعة الخالق على المخلوق، ولولا فضله لما كان محسوباً بشطر الإيمان، ولما جعل لله الجنة لها ثمناً وليست لغيره من الأثمان، وقد علمت أن العدو هو جارك الأدنى، والذي يبلغك وتبلغه عيناً وأذنا، ولا يكون للإسلام نعم الجار حتى تكون له بئس الجار، ولا عذر لك في ترك جهاده بنفسك ومالك إذا قامت لغيرك الأعذار، وأمير المؤمنين لا يرضى منك بأن تلقاه مكافحاً، أو تطرق أرضه مماسياً أو مصابحاً، بل يريد أن تقصد البلاد التي في يده قصد المستنقذ لا قصد المغير، وأن تحكم فيها بحكم الله الذي قضاه على لسان سعدٍ في بني قريظة والنضير، وعلى الخصوص البيت المقدس فإنه تلاد الإسلام القديم، وأخو البيت الحرام في شرف التعظيم، والذي توجهت إليه الوجوه من قبل السجود والتسليم، وقد أصبح وهو يشكو طول المدة في أسر رقبته، وأصبحت كلمة التوحيد وهي تشكو طول الوحشة في غربتها عنه وغربته، فانهض إليه نهضةً توغل في قرحه، وتبدل صعب قياده بسمحه، وإن كان عام حديبية فأتبعه بعام فتحه، وهذه الاستزادة إنما تكون بعد سداد ما في اليد من ثغرٍ كان مهملاً فحميت موارده، أو مستهدماً فرفعت قواعده ومن أهمها ما كان حاضر البحر فإنه عورةٌ مكشوفة، وخطة مخوفة، والعدو قريبٌ منه على بعده، وكثيراً ما يأتي فجأةً حتى يسبق برقه برعده، فينبغي أن ترتب بهذه الثغور رابطةً تكثر شجعانها، وتقل أقرانها، ويكون قتالها لأن تكون كلمة الله هي العليا لا لأن يرى مكانها، وحينئذ يصبح كلٌ منها وله من الرجال أسوار، ويعلم أهله أن بناء السيف أمنع من بناء الأحجار ومع هذا لا بد من أسطول يكثر عدده، ويقوى مدده، فإنه العدة التي تستعين بها في كشف الغماء، والاستكثار من سبايا العبيد والإماء، وجيشه أخو الجيش السليماني: فذاك يسير على متن الريح وهذا على متن الماء، ومن صفات خيله أنها جمعت بين العوم والمطار، وتساوت أقدار خلقها على اختلاف مدة الأعمار، وإذا أشرعت قيل جبالٌ متلفعة بقطع من الغيوم، وإذا نظر إلى أشكالها قيل: إنها أهلة غير أنها تهتدي في مسيرها بالنجوم، ومثل هذه الخيل ينبغي أن يغالى في جيادها، ويستكثر من قيادها، وليأمر عليها أميرٌ يلقى البحر بمثله من سعة صدره، ويسلك طرقه سلوك من لم تقتله بجهلها ولكن قتلها بخبره، وكذلك فليكن ممن أفنت الأيام تجاربه، وزحمتها مناكبه، وممن يذل الصعب إذا هو ساسه وإن سيس لان جانبه، وهذا الرجل الذي يرأس على القوم فلا يجد هزةً بالرياسة، وإن كان في الساقة ففي الساقة أو في الحراسة ففي الحراسة، ولقد أفلحت عصابةٌ اعتصبت من ورائه، وأيقنت بالنصر من رايته كما أيقنت بالنصر من رائه.
واعلم أنه قد أخل من الجهاد بركن يقدح في عمله، وهو تمامه الذي يأتي في آخره كما أن صدق النية يأتي في أوله، وذلك هو قسم الغنائم فإن الأيدي قد تداولته بالإجحاف، وخلصت جهادها في بغلوها فلم ترجع بالكفاف، والله قد جعل الظلم في تعدي حدوده المحدودة، وجعل الاستئثار بالمغنم من أشراط الساعة الموعودة، ونحن نعوذ به أن يكون زماننا هذا شر زمانٍ وناسه شر ناس، ولم يستخلفنا على حفظ أركان دينه ثم نهمله إهمال مضيع ولا إهمال ناس، والذي نأمرك به أن تجري هذا الأمر على المنصوص من حكمه، وتبريء ذمتك مما يكون غيرك الفائز بفوائده وأنت المطالب بإثمه، وفي أرزاق المجاهدين بالديار المصرية والشامية ممن يغنيهم عن هذه الأكلة التي تكون غداً أنكالاً وجحيماً وطعاماً ذا غصةٍ وعذاباً أليماً، فتصفح ما سطرناه لك في هذه الأساطير التي هي عزائم مبرمات، بل آياتٌ محكمات، وتحبب إلى الله وإلى أمير المؤمنين باقتفاء كتابها، وابن لك منها مجداً يبقى في عقبك إذا أصيبت البيوت في أعقابها، وهذا التقليد ينطق عليك بأنه لم يأل في الوصايا التي أوصاها، وأنه لم يغادر صغيرةً ولا كبيرةً إلا أحصاها، ثم إنه قد ختم بدعواتٍ دعا بها أمير المؤمنين عند ختامه، وسأل فيها خيرة الله التي تتنزل من كل أمير بمنزلة نظامه، ثم قال: اللهم إني أشهدك على من قلدته شهادةً تكون عليه رقيبه، وله حسيبه، فإني لم آمره إلا بأوامر الحق التي فيها موعظة ٌوذكرى، وهي لمن اتبعها هدىً ورحمةٌ وبشرى، فإذا أخذ بها فلج بحجته يوم يسأل عن الحجج، ولم يختلج دون رسول الله عن الحوض في جملة من يختلج، وقيل له: لا حرج عليك ولا إثم إذ نجوت من ورطات الإثم والحرج، والسلام.
المذهب الخامس: أن يفتتح العهد بإن أولى ما كان كذا ونحوه:
وهي طريقة غريبةٌ، كتب عليها عهد السلطان صلاح الدين يوسف بن أيوب بالديار المصرية من ديوان الإنشاء ببغداد. وهو الذي عارضه الوزير ضياء الدين بن الأثير في العهد المتقدم ذكره في المذهب الرابع. وهذه نسخته.
إن أولى من جادت رباعه سحب الاصطناع، وخص من الاصطفاء والاجتباء بالصفايا والمرابع، من ترسم انتهاج الجدد القويم، والطريق الواضح المستقيم، واعتلق من الولاء بأوثق عصمه وحباله، والفناء الذي يهتدي بأنواره في متصرفاته وأعماله، والتحلي بجميل الذكر في سيرته، وخلوص الاعتناء بأمور رعيته، وكان راغباً في اقتناء حميد الخلال، مجتهداً في طاعة الله بما يرضيه من العدل الممتد الظلال، عاملاً فيما يناط به بما يتضوع نشر خبره، ويجتنى بحسن صنعه يانع ثمره، باذلاً وسعه في الصلاح، مؤذنةً مساعيه بالفوز القداح.
ولما كان الملك الأجل، السيد، صلاح الدين، ناصر الإسلام، عماد الدولة، جمال الملك فخر الملة، صفي الخلافة، تاج الملوك والسلاطين، قامع الكفرة والمشركين، قاهر الخوارج والمتمردين، عز المجاهدين، ألب غازي بك بن يوسف بن أيوب أدام الله علوه على هذه السجايا مقبلاً، وبصفاتها الكاملة مشتملاً، مؤثراً تضاعف المأثرات، مثابراً على ما تزكو به الأعمال الصالحات، متحلياً بالمحامد الرائقة، مستبداً بالمناقب التي هي لجميل أفعاله موافقةٌ مطابقة، محصلاً من رضى الله تعالى ما يؤثره ويرومه من طاعة الدار العزيزة لا زالت مشيدة البناء، سابغة النعماء، دائمة الاستبشار، عزيزة الأنصار من استمرار الظفر ما يستدميه، اقتضت الآراء الشريفة لا زال التوفيق قرينها، والتأييد مظافرها ومعينها إمضاء تصرفه وإنفاذ حكمه في بلاد مصر وأعمالها، والصعيد الأعلى، والإسكندرية، وما يفتحه من بلاد الغرب والساحل، وبلاد اليمن وما افتتحه منها ويستخلصه بعد من ولايتها، والتعويل في هذه الولايات عليه، واستنقاذ ما استولى عليه الكفار من البلاد، وإعزاز كل من أذلوه واضطهدوه من العباد: لتعود الثغور بيمن نقيبته ضاحكة المباسم، وبإصابة رأيه قائمة المواسم.
أمره بادئاً بتقوى الله التي هي الجنة الواقية، والذخيرة الباقية، والعصمة الكافية، والزاد إذا أنفض وفد الآخرة وأرملوا، والعتاد النافع إذا وجدوا شاهداً لهم وعليهم ما عملوا: فإنها العلم المنصوب للرشد، قال الله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله ولتنظر نفسٌ ما قدمت لغد}.
وأمره أن يتخذ كتاب لله سبحانه العلم الذي به يقتدي، وبأنواره إلى حدود الصواب يهتدي، ويستمع لزواجره ومواعظه، ويعتبر بتخويفه وملاحظه، ويصغي إليه بسمعه وقلبه، وجوارحه ولبه، ويعمل بأوامره المحكمة، ويقف عند نواهيه المبرمة، ويتدبر ما حوته آياته من الوعد والوعيد، والزجر والتهديد، قال الله عز وجل: {وإنه لكتابٌ عزيزٌ * لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيلٌ من حكيم حميد}.
وأمره أن يكون على صلاته محافظاً ولنفسه عن الإخلال والتقصير في أداء فرضها واعظاً، فيغتنم الاستعداد أمام أوقاتها للأداء، ويحترز من فواتها والحاجة إلى القضاء، موفياً حقها من الركوع والسجود، على الوصف الواجب المحدود، مخلصاً سره عند الدخول فيها، وناهياً نفسه عما يصدها بالأفكار ويلهيها، مجتهداً في نهي الفكر والوسواس عن قلبه، منتصباً في إخلاص العبادة لربه: ليغدو بوصف الأبرار منعوتاً، قال الله تعالى: {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً}.
وأمره بقصد المساجد الجامعة في أيام الجمع، امتثالاً لأمر الله المتبع، بعزيمةٍ في الخير صادقة، ونية للعبادة موافقة، وفي الأعياد إلى المصليات المصحرة المجملة بالمنابر الحالية، التي هي عن الأدناس نائية، فإنها من مواضع العبادة ومواطنها، ومظان تلاوة القرآن المأمور بحفظ آدابها وسننها، فقد وصف الله تعالى من وفقه لتجميل بيوته بالعمارة، بما أوضح فيه الإشارة، وشرفه بوضع سمة الإيمان عليه بالإكرام الفاخر، فقال: {إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر} فليقم الدعوة الهادية على المنابر على عادة من تقدمه، ومنتهياً فيها إلى أحسن ما عهده وعلمه.
وأمره بلزوم نزاهة الحرمات، واجتناب المحرمات، والتحلي من العفاف والورع بأجل القلائد الرائقة، والتقمص بملابس التقوى التي هي بأمثاله لائقة، وسلوك مناهج الصلاح الذي يجمل به فعله، ويصفو له عله ونهله، وأن يمنع نفسه من الغضب، ويردها عما تأمر به من سوء المكتسب، ويأخذها بآداب الله سبحانه في نهيها عن الهوى، وحملها على التقوى، وردعها عن التورط في المهاوي والشبه، وكل أمرٍ يلتبس فيه الحق ويشتبه، ويلزمها الأخذ بالعفو والصفح، والتأمل لمكان الأعمال فيه واللمح، قال الله تعالى: {خذ العفو وأمر بالمعروف واعرض عن الجاهلين}.
وأمره بإحسان السيرة في الرعايا بتلك البلاد، واختصاصهم بالصون الرائح الغاد، ونشر جناح الرعاية على البعيد منهم والقريب، وإحلال كلٍ منهم محله على القاعدة والترتيب، وإشاعة المعدلة فيهم، وإسهام دانيهم من وافر ملاحظته وقاصيهم، وأن يحمي سرحهم من كل داعر، ويذود عنهم كل مواربٍ بالفساد ومظاهره، حتى تصفو لهم من الأمن الشرائع، وتضفو عليهم من بركة ولايته المدارع، وتستنير بضوء العدل منهم المطالع، ويحترم أكابرهم، ويحنو على أصاغرهم، ويشملهم بكنفه ودرعه، وينتهي في مصالحهم إلى غاية وسعه، ولا يألوهم في النصح جهداً، ولا يخلف لهم في الخير وعداً، ويشاورهم في أمره فإن المشورة داعيةٌ إلى الفلاح، ومفتاح باب الصلاح، قال الله تعالى: {فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر فإذا عزمت فتوكل على الله إن الله يحب المتوكلين}.
وأمره بإظهار العدل في الرعية التي تضمها جميع الأكناف والأطراف، والتحلي من النصفة بأكمل الأوصاف، وحمل كافتهم على أقوم جدد، وعصيان الهوى في تقويم كل أود، والمساواة بين الفاضل والمفضول في الحق إذا ظهر صدق دليله، والاشتمال عليهم بالأمن الذي يعذب لهم برد مقيله، وكشف ظلامة من انبسطت إلى تحيفه الأيدي والأطماع، وأعجزته النصرة لنفسه والدفاع، وتصفح أحوالهم بعينٍ لا ترنو إلى هوى يميل بها عن الواجب، وسمع لا يصغى إلى مقالة مائنٍ ولا كاذب، ولا يغفل عن مصلحةٍ تعود إليهم، ويرجع نفعها عليهم، ولاعن كشف ظلامات بعضهم من بعض، وردهم إلى الحق في كل رفع من أحوالهم وخفض، فلا يرى إلا بالحق عاملاً، وللأمور على سنن الشريعة حاملاً، مجتنباً إغفال مصالحهم وإهمالها، وحارساً نظامها على تتابع الأيام واتصالها: ليكون ذلك إلى وفور الأجر داعياً، وبحسن الأحدوثة قاضياً، مقتدياً بما نطق به القرآن: {إن الله يأمر بالعدل والإحسان}.
وأمره أن يأمر بالمعروف ويقيم مناره، وينهى عن المنكر ويمحو آثاره، فلا يترك ممكناً من إظهار الحق وإعلانه، وقمع الباطل وإخماد نيرانه، ويعتمد مساعدة كل مرشد إلى الطريق الأقصد، وناهٍ عن التظاهر بالمحظور في كل مشهد، فإنه تضحي معونته مشاركةً في إحراز المثوبة ومساهمة، ومساومةً في اقتناء الأجر ومقاسمة، وأن يوعز بإزالة مظان الريب والفساد في الداني من الأعمال والقاصي، فإنها مواطن الشيطان وأماكن المعاصي، وأن يشد على أيدي الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر، ويعينهم على ذلك بما يطيب ذكره في كل مشهد ومحضر، ويجتهد في إزالة كل محظور ومنكر، مقدمٍ في الباطل ومؤخر، قال الله تعالى: {وأمر بالمعروف وانه عن المنكر}.
وأمره أن يقدم الاحتياط في حفظ الثغور ومجاوريها من الكفار، ويستعمل غاية التيقظ في ذلك والاستظهار: ليأمن عليها غوائل المكايد، ويفوز من التوفيق لذلك بأنواع المحامد، ويتجرد لجهاد أعداء الدين، والانتقام من الكفرة المارقين، أخذاً بقول رب العالمين: {انفروا خفافاً وثقالاً وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خيرٌ لكم إن كنتم تعلمون}. وأن يعمل فيما يحصل من الغنائم عند فل جموعهم، وافتتاح بلادهم وربوعهم، بقول الله وما أمر به في قسمتها، وإيفاء كل صاحب حصةٍ حصته منها، سالكاً سبل من غدا لآثار الصلاح مقتفياً، وللفرض في ذلك مؤدياً، وبهدى ذوي الرشد مهتدياً. قال الله تعالى في محكم التنزيل: {واعلموا أنما غنمتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل}.
وأمره أن يجيب إلى الأمان من طلبه منه، ويكون وفاؤه مقترناً بما تضمنه، غير مضمرٍ خلاف ما يعطي به صفقة أمانه ولا مخالف باطنه ما أظهره من مقاربته إلى عقد الهدن وإتيانه ويجتنب الغدر وما فيه من العار، وإسخاط الملك الجبار، قال الله عز وجل: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون}.
وأمره بأن يأمر أصحاب المعاون بمساعدة القضاة والحكام، ومعونتهم بما يقضي بلم شمل الصلاح في تنفيذ القضايا والانتظام، وأخذ الخصوم بإجابة الداعي إذا استحضروا إلى أبوابهم للإنصاف، والمسارعة إلى الحق الواجب عليهم من غير خلاف قال الله تعالى: {وأكثرهم للحق كارهون}.
وأمره بالتعويل في المظالم وأسواق الرقيق ودور الضرب والحسبة على من يأوي إلى عفافٍ ودين، وعلمٍ بأحكام الشريعة وصحة يقين، لا يخفى عليه ما حرمه الله تعالى وأحله، ولا يلتبس على علمه ما أوضح إلى الحق الواضح سبله، وإلى من يتولى المظالم بإيصال الخصوم إليه، وإنصافهم كما أوجبه الله تعالى عليه، واستماع ظلاماتهم، وإحسان النظر في مشاجراتهم، فإن أسفر للحق ضياءٌ تبعه، أو اشتبه الأمر رده إلى الحكام ورفعه، وإلى الناظر في أسواق الرقيق بالاحتراز والاستظهار، وتعرية الأحوال من الشبه في امتزاج العبيد بالأحرار: لتضحى الأنساب مصونةً مرعية، والأموال عن الثلم محروسةً محمية. وإلى من ينظر في الحسبة يتصفح أحوال العامة في متاجرهم وأموالهم، وتتبع آثار صحتهم في المعاملة واعتلالهم، واعتبار الموازيين والمكاييل، وإلزام أربابها الصحة والتعديل، قال الله سبحانه وتعالى: {وزنوا بالقسطاس المستقيم}.
وأن يعمل الجفن في تطهير البلاد، من كل مدخول الاعتقاد، معروفٍ بالشبه في دينه والإلحاد ومن يسعى منهم في الفساد، ويأمر المرتبين في المراكز والأطراف باقتناصهم، وكف فسادهم وإجلائهم عن عراصهم، وأن يجري عليهم في السياسة ما يجب على أمثالهم من الزنادقة والذين توبتهم لا تقبل، وأمرهم على حكم المخاطبين لا يحمل. قال الله تعالى: {إن الذين كفروا بعد إيمانهم ثم ازدادوا كفراً لن تقبل توبتهم وأولئك هم الضالون}.
وأمره أن يتلقى النعمة التي أفرغت عليه، وانساقت إليه، بشكر ينطق به لسانه، ويترجم عنه بيانه: ليستديم بذلك الإكرام، ويقترن الإحسان عنده بالالتئام، وأن يوفيها حقها من دوام الحمد والقصد إلى شكرها والعمد، قال الله تعالى: {ومن شكر فإنما يشكر لنفسه}.
وليعلم أن أمير المؤمنين قد بين له من الصلاح ما اتضحت أعلامه، وأثبتت في المرامي سهامه، وأرشد إلى ما أودع هذا المنشور من جدد الفوز بمرضاة الله تعالى وشكر عباده، عاملاً في ذلك بمقتضى جده واجتهاده: ليحرز السبق في دنياه وعقباه، ويتوفر عنده ما منح به مما أرهف عزمه وحباه، وغدا بمكانه رافلاً في ملابس الفخر والبهاء، نائلاً مني ما طال به مناكب القرناء، واختص بما أعلى درجته فتقاعست عنه آمال حاسديه، وتفرد بالمكانة عن مقام من يباريه ويناويه، وأولي من الإنعام ما أمن به سرب النعمة عنده، وأصفى من مناهل الإحسان ورده، وأهدى إليه من المواعظ ما يجب أن يودعه واعية الأسماع، ويأخذ بالعمل به كل راع، فينهج أدام الله علوه محاج الولاء الذي عهده من أمثاله من الأولياء، متنزهاً عن تقصيرٍ منه في عامة الأوقات، ومراعياً أفعاله في جميع التصرفات، ويعلم أنه مسؤول عن كل ما تلفظ به لسانه ناطقاً، ونظر طرفه إليه رامقاً، قبل أن يجانب هواه، ويبقى رهيناً بما اكتسبت يداه، ولا يغتر من الدنيا وزخرفها بغرار ليس الوفاء من طباعه، ومعيرٍ ما أقصر مدة ارتجاعه!، وسبيل كافة القضاة والأعيان ومقدمي العساكر والأجناد، ورؤساء البلاد، متابعته وموافقته، وطلب مصالهم من جنابه والتصرف على استصوابه، وقد أكدت وصاته في الرفق بهم والاشتمال عليهم، والإحسان إليهم، وإجمال السيرة فيهم، وكلما أشكل عليه أمرٌ من المتجددات يطالع به الديوان العزيز مجده الله تعالى لينهج له السبيل إلى فتح رتاجه، وسلوك منهاجه، والله ولي التوفيق والهداية، وجمع الكلمة في كل إعادةٍ وبداية، والمعونة على العصمة من الزلل، والتأييد في القول والعمل، إن شاء الله تعالى وهو حسبنا ونعم الوكيل.
الوجه السابع فيما يكتب في مستند عهد السلطان عن الخليفة وما يكتبه الخليفة في بيت العلامة وما يكتب في نسخة العهد من الشهادة أو ما يقوم مقامها:
أما ما يكتب في المستند، فقد جرت العادة أن يكتب فيه نحو ما تقدم في البيعات وعهود ولاة العهد بالخلافة: وهو: بالإذن العالي، المولوي، الإمامي، النبوي، الفلاني بلقب الخلافة أعلاه الله تعالى.
وأما ما يكتبه الخليفة في بيت العلامة، فإنه يكتب علامته وتحتها: فوضت إليه ذلك، وكتب فلان بن فلان. ورأيت في بعض الدساتير نقلاً عن الحاكم بأمر الله أبي العباس ابن الخليفة المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أنه كان يكتب: وكتب أحمد ابن عم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم.
وأما ما يكتب في نسخة العهد من الشهادة، فقد جرت العادة أن يكتب قاضيان فأكثر من قضاة القضاة الأربعة في حاشية العهد أو في ذيله ما صورته: أشهدني مولانا أمير المؤمنين العاهد المشار إليه فيه أدام الله تعالى أيامه بما نسب إليه فيه من العهد إلى فلان بن فلان أو ما في معنى ذلك.
قلت: والواجب أن يضموا في رسم شهادته الشهادة على السلطان بقبول العهد، بأن يقال قبل على ما نص وشرح فيه: وعلى مولانا السلطان المشار إليه فيه بقبول ما فوض إليه فيه أو نحو ذلك: لأنه كما يعتبر العهد من العاهد يعتبر القبول من المعهود إليه كما تقدم في موضعه.
الوجه الثامن في قطع الورق الذي تكتب فيه عهود الملوك عن الخلفاء والقلم الذي يكتب به وكيفية كتابتها وصورة وضعها في الورق:
أما قطع الورق فلا نزاع في أنه يكتب في قطع البغدادي الكامل، على ما هو مستقر العادة الآن. وقد تقدم في الكلام على مقادير قطع الورق في المقالة الأولى من الكتاب أن عرضه ثلاثة أشبار وخمسة أصابع، وطول الوصل كذلك.
وأما القلم الذي يكتب به، فمختصر قلم الطومار لمناسبته له على ما تقدم فيما يناسب كل قطع من الورق من الأقلام.
وأما كيفية كتابة العهد وصورة وضعه في الورق، فعلى ما تقدم في البيعات وعهود أولياء العهد بالخلافة: وهو ان يبدأ بكتابة الطرة في أعلى الدرج من أول عرض الورقة إلى آخره سطوراً متلاصقةً من غير هامشٍ، وفي أعلاه قدر إصبع بياضاً، ثم يترك ستة أوصالٍ بياضاً من غير كتابة غير الوصل الذي فيه الطرة، ثم تكتب البسملة في أول الوصل الثامن بحيث تكون أعالي ألفاتها تكاد تحلق بالوصل الذي فوقه، بهامش عن يمين الدرج قدر أربعة أصابع مطبوقة أو خمسة، ثم يكتب سطراً من أول العهد تحت البسملة ملاصقاً بحيث تكاد أعالي ألفاته تلحق بالبسملة، ثم يخلي بيت العلامة قدر شبر، ثم يكتب السطر الثاني من العهد على سمت السطر الذي تحت البسملة، ويسترسل في كتابة بقية العهد.
ثم الذي رأيته في دستور معتمد ينسب للمقر العلائي بن فضل الله أنه يكون بين كل سطرين قدر ربع ذراع. وأخبرني بعض فضلاء الكتاب أنه رأى في بعض الدساتير أن سطوره تكون مزدوجةً على نظير البسملة والسطر الأول، وبين كل سطرين بعد بيت العلامة تقدير خمسة أصابع مطبوقةٍ.
قلت: ولعل ذلك تفنن من الكاتب وتطريزٌ للكتابة، لا على سبيل اللزوم.
فإن قيل: لم كان مقدار البياض بين سطور العهد مع كبر قطع الورق دون بياض ما بين سطور التقاليد ونحوها مما يكتب عن السلطان على ما سيأتي ذكره؟ فالجواب أن العهد كالمكاتبة من العاهد للمعهود إليه، كما أن التقليد كالمكاتبة من المقلد للمقلد، والأعلى في حق المكتوب إليه أن تكون السطور متضايقةً على ما تقدم في الكلام على المكاتبات، فناسب أن تكون سطور العهد أكثر تقارباً من سطور التقليد وما في معناه، تعظيماً لشأن السلطان في الحالتين.
فإن قيل: ينقض ذلك بعظم قلم العهد، ضرورة أنه كلما غلظ القلم كان أنزل في رتبة المكتوب إليه على ما تقدم أيضاً، فالجواب: أن غلظ القلم في العهد تابعٌ للورق في كبر قطعه، وقاعدة ديوان الإنشاء أنه كلما كبر قطع الورق في المكاتبات، كان تعظيماً للمكتوب إليه، بدليل أنه كل من عظم مقداره من الملوك كان قطع الورق في مكاتبته اكبر، ولو كتب العهد بقلمٍ دقيق مع ضيق السطور وسعة الورق لجاء في غاية القصر. ثم قد جرت العادة أن تكون كتابة العهد من أوله إلى آخره من غير نقط ولا شكل، وعليه عمل الكتاب إلى آخر وقت.
قلت: هذا بناءً على المذهب الراجح في أن المكاتبة إلى الرئيس تكون من غير إعجام ولا ضبط: لما في الإعجام والضبط من استجهال المكتوب إليه ونسبته للغباوة وقلة الفهم، بخلاف من ذهب إلى أن الكتابة إلى الرئيس تقيد بالإعجام والضبط كي لا يعترضه الشك، ولا يكلف إعمال الفكر، على ما تقدم ذكره في أوائل المكاتبات، فإنه يرى نقط العهد وشكله.
وإذا انتهى إلى آخر العهد كتب المشيئة، ثم التاريخ، ثم المستند، ثم الحمدلة والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ثم الحسبلة، على ما تقدم في الكلام على الفواتح والخواتم في أوائل المقالة الأولى من الكتاب.
الطرة:
هذا عهدٌ شريفٌ تجددت مسرات الإسلام بتجديده، وتأكدت أسباب الإيمان بتأكيده، ووجد النصر العزيز والفتح المبين بوجوده، ووفد اليمن والإقبال على الخليقة بوفوده، وورد الأنام مورد الأمان بوروده. من عبد الله ووليه الإمام المستكفي بالله أبي الربيع سليمان أمير المؤمنين، ابن الحاكم بأمر الله أبي العباس أحمد، عهد به إلى السلطان الملك الناصر أبي الفتح محمدٍ خلد الله سلطانه، ابن السلطان الملك المنصور سيف الدين قلاوون الصالحي قدس الله روحه على ما شرح فيه.
بسم الله الرحمن الرحيم
الهامش هذا عهدٌ شريفٌ يعمر بك للإسلام المعاهد، وينصر منك الاعتزام بيت لعلامة فتغني عن الموالي والمعاضد، ويلقي إليك مقاليد الأمور لتحمي في مرضاة تقدير ربع ذراع.
الهامش الله وتجاهد، ويبعثك على العمل بالكتاب والسنة: ليكونا شاهدين لك تقدير ربع ذراع.
عند الله في أعظم المشاهد إلى أن يأتي إلى قوله في آخره: والله تعالى يخلد له رتبة الملك التي أعلى بها مقامه، ويديمه ناصراً للدين الحنيف فأنصاره لا يزالون ظاهرين إلى يوم القيامة، ويجعل سبب هذا العهد مدى الأيام متيناً، ويجدد له في كل وقت نصراً قريباً وفتحاً مبيناً، والخط الحاكمي أعلاه، حجةٌ بمقتضاه إن شاء الله تعالى.
كتب في من شهر كذا سنة كذا بالإذن المولوي العالي الإمامي النبوي الحاكمي أعلاه الله تعالى الحمد لله وحده، وصلواته على سيدنا محمدٍ وآله وصحبه وسلامه حسبنا الله ونعم الوكيل.